ماذا تكشف التطورات السورية ؟
غالب قنديل
منذ انطلاق العمليات الروسية في سورية يخوض الجيش العربي السوري معارك متواصلة ويتقدم على عدد من الجبهات في جميع انحاء البلاد ( يقدرها بعض الخبراء بثماني جبهات رئيسية ) وبالفعل فقد حقق هذا الجيش الذي قيل إنه منهك ومتعب تقدما على جبهتي درعا والجولان وفي محاور أرياف محافظات دمشق وحمص وحماه وإدلب واللاذقية وحلب وتجمع المصادر العارفة على ان ذلك الجهد والحشد القتالي كله ليس فعليا ما يمكن اعتباره الهجوم الشامل المتوقع والذي تم التخطيط له بإحكام خلال خمسة أشهر من المباحثات والمداولات بين القيادات العسكرية والروسية والإيرانية والسورية .
لدى معاينة المشهد السوري تتكشف حقائق وأبعاد كثيرة ومهمة لكن أبرزها هو التالي :
أولا ما شهدناه خلال الشهور الماضية كان حصيلة خطة محكمة للخداع الاستراتيجي وضعتها القيادة السورية بالاشتراك مع حلفائها فقد أوحت بأنها تنفذ انكفاءا عن العديد من المواقع للتحصن خلف خطوط يمكن الدفاع عنها وهذا ما قاله الرئيس بشار الأسد مباشرة ولكن رغم طرح الرئيس السوري لفكرة الحاجة إلى قوى جديدة بشريا وماديا لامتلاك المبادرة الهجومية واسترجاع المناطق التي اجتاحتها عصابات الإرهاب بفضل الدعم والإسناد الهائل عبر الحدود التركية والأردنية لكن القوى المعادية لسورية اخذت الشطر الأول من كلام الرئيس الأسد وبنت عليه خطابا شاملا محوره فكرة ” قرب انهيار النظام “.
الخدعة الاستراتيجية التي دبرها الرئيس السوري هي انه عندما كان يتحدث كانت مجموعات قيادية عسكرية سورية تعمل على تنفيذ تعليماته القاضية بإعادة تأهيل وهيكلة وتنظيم وحدات مقاتلة من نخب الجيش العربي السوري جرى تزويدها بأسلحة حديثة لم تكن القيادة العسكرية السورية قد تسلمتها من قبل رغم التوقيع على ذلك اتفاقيات ضخمة مع الحليف الروسي منذ عام 2012 وخلال تلك الشهور المنقضية تم إطلاق فيالق الهجوم العسكري التي ظهرت بعض وحداتها في الميدان مؤخرا .
ثانيا رغم الضغوط السياسية والمعنوية التي شكلتها الحملات الإعلامية المعادية حول خطوات إعادة نشر الجيش العربي السوري لوحداته في جبهات الجنوب والشمال والوسط وعلى الرغم من تدفق المال والسلاح والمسلحين عبر الحدود نجحت الدولة السورية ومعها روسيا وإيران في التكتم على عمليات التخطيط التي حققت التناغم والتزامن بين محوري المبادرة الاستراتيجية الشاملة في الحرب على الإرهاب : نهوض الجيش العربي السوري بوحدات هجومية ضخمة والانخراط الروسي والإيراني إلى جانب سورية في خطة جديدة وشاملة للقضاء على الإرهاب .
لزمت الصمت كل من بغداد وطهران ودمشق وموسكو حول الاجتماعات القيادية المتلاحقة والمتنقلة جغرافيا على مدى أشهر والتي كشف عنها السيد حسن نصرالله قائد المقاومة، الشريك الخامس في التنسيق القيادي الهجومي ورغم كثافة الاجتماعات التي شهدتها موسكو ودمشق وطهران وبغداد فقد ظل سر التوقيت المقرر للخطوات العسكرية الروسية مكتوما ولم يتسرب لأي جهة كانت وهكذا تحققت المفاجاة التي صدمت المخططين الغربيين رغم ان لقاءات الرئيس بوتين شملت جهات متورطة في حلف العدوان على سورية عرض عليها بوتين المشاركة في عمليات تنسيقية مع الدولة السورية لمحاربة الإرهاب الذي ينذر بالارتداد عليها وطرح معها ما يمكن اعتباره الخطوط الحمراء الروسية قبل ان يتبين عزم روسيا على التدخل المباشر واليوم تظهر قيمة ذلك الجهد التحضيري الاستباقي.
ثالثا من الوجهة السياسية يلخص الموقف الروسي الجديد مضمون الخطة الهجومية لسورية وحلفائها بعبارة “القضاء على الإرهاب ثم الحل السياسي “وهو ما أكده سابقا الرئيس بشار الأسد أي مجابهة الإرهاب ومن ثم حوار سوري يقود إلى انتخابات نيابية ورئاسية.
اما الترهات التي يتسلى بها المسؤولون الغربيون والسعوديون والأتراك عن مستقبل دور الرئيس بشار الأسد فهي واقعيا خارج الموضوع وهي مبنية على فرضية العجز عن القضاء على الإرهاب والاضطرار للمقايضة بين الصيغة السياسية للحكم في سورية وتدابير حدودية صارمة في تركيا والأردن لمنع تهريب السلاح والمال والمسلحين إلى سورية .
لقد جاءت صادمة مجموعة من التغييرات المتلازمة : الحضور الروسي وانخراط الحلفاء واستنهاض القدرات الهجومية للجيش العربي السوري لتلاقي موقف ووعي الغالبية الشعبية السورية الداعمة للدولة الوطنية ولرئيسها المقاوم وهذا ما يؤسس لإنجازات نوعية في الميدان ظهرت طلائعها فحسب حتى الآن وحيث يمكن القول إن تزامن العمليات في سورية والعراق معا سوف يتيح تعجيل ضرب البنى المركزية لداعش التي يراهن المخططون الأميركيون على استثمارها في لي ذراع الرئيس بويتن وإرغامه على قبول التخلي عن الرئيس بشار الأسد وهذا ما يقارب الاستحالة أما نظرية : نقضي على الإرهاب بزعامة الأسد ثم نضغط عليه ليتنحى فهي من التخريفات التي يرددها أمراء آل سعود نتيجة الذهول الذي تولده مفاجآت صمود الأسد وإنجازاته السياسية والعسكرية رغم كل ما سخرته المملكة من اموال وأسلحة وإرهابيين للنيل من سورية ورئيسها وخلاصة القول إن تحقيق الانتصار سوف يتطلب وقتا وهو مسار لن يكون في خط مستقيم حكما لكنه يتجه بثقة وثبات إلى انعطافة حاسمة آتية لا محالة .