هبّة فلسطين والأوهام الثلاثة
غالب قنديل
كثيرة هي العوامل والحوافز المحرّكة للهبّة الشعبية الفلسطينية بعد سنوات من مسار أوسلو الذي علق في انسداد سياسي شامل، وتحوّل إلى سياق لتثبيت الاستيطان وإحكام قبضة المستعمرين الصهاينة على الضفة الغربية المحتلة، وبتغطية أمنية من السلطة الفلسطينية التي لا ترى مانعاً من التنسيق الأمني مع «الموساد» ضدّ شعبها الذي تتباكى على شهدائه، ومع مواصلة تدعيم الكيان الصهيوني لمنظومة الاحتلال والتمييز العنصري في الأرض المحتلة العام 1948، بينما يتواصل حصار غزة لكسر إرادة المقاومة وترويضها سياسياً بوهم الهدنة تحت الرعاية القطرية التركية «الإخوانية».
تساقطت أوهام الفلسطينيين تباعاً عن الدولة الافتراضية في أرخبيل بلداتهم ومدنهم المقطّعة بالجدار والمستوطنات، ومع استباحة المقدسات ومباشرة التهديد العملي بهدم المسجد الأقصى ووسط ظروف اقتصادية اجتماعية شديدة البؤس تهاوى الرهان على رخاء مزعوم بتسوّل فتات الصناديق الأوروبية الخليجية تحت الاحتلال.
المأزق الفعلي قياديّ أولاً وأخيراً، وهو نابع من طبيعة القيادات السياسية الفلسطينية ونهجها وتوجهاتها، وهذا هو الحاجز المعيق لتقدّم الهبة الشعبية وتحوّلها إلى انتفاضة قادرة على تحقيق توازن جديد للقوى في الصراع ضدّ الكيان الفلسطيني.
قامت القيادات المسيطرة في «فتح» و«حماس» بتزييف شامل لقضية الشعب المركزية من خلال الترويج لوهمَي الهدنة في غزة والدولة في الضفة وعبر سلوكيات البيروقراطية الهادفة لتطويب امتيازاتها المكتسبة لقاء التعاون مع الاحتلال ضدّ المقاومين من أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة، والرضوخ لترتيبات الهدنة غير المعلنة في القطاع، ومع تورّط مكتب حماس السياسي في الترويج لمشروع هونغ كونغ في غزة، كما زيّنه سلطان الوهم العثماني وأمير الغفلة الإخوانية القطري، والحصيلة محاولة خنق الجناح المقاوم في غزة تمهيداً لسحقه انطلاقاً من شطب فاعليته ودوره في حمل راية التحرير.
أما داخل الأرض المحتلة العام 48 فالمجموعات السياسية الوطنية ما تزال مسلوبة بخرافة عزمي بشارة عن المواطنة داخل الكيان، حيث تقاد الجماهير الفلسطينية تحت الاحتلال الاستيطاني إلى تحرّكات مطلبية تتناول شروط العيش في ظلّ التمييز والقهر، وتغدو احتياطياً انتخابياً ثانوياً في صناديق الاقتراع وفي المنافسة بين الأجنحة المكوّنة للحركة الصهيونية.
في الساحات الفلسطينية الثلاث تُمسخ القضية الوطنية إلى عمل مطلبي لتحسين شروط الرضوخ المذلّ لسيطرة الاستعمار الاستيطاني الذي يستبيح وهم القطاع «المحرّر»، والذي يتداول عملة العدو ويتغذى من شبكاته الخدمية وتلك السيطرة تتحكم بالضفة المغتصبة وسلطتها الوهمية التي لا وجود فيها لمعالم الدويلة المتخيّلة غير البرزان والتشريفات، بينما يُعدّ الصهاينة لخطط التهويد والاقتلاع داخل أرض 48.
هكذا يبشر قادة السلطة في الضفة بالنضال السلمي ويتآمرون على ألوية المقاومة المسلحة جهاراً، بينما قادة حماس يتباهون بصمت السلاح الذي جرى تبديد ثمار صموده الشامخ في وجه حملات الإبادة وهم ينشغلون في التصدي للتدخل الروسي الداعم للدولة السورية المقاومة التي احتضنتهم وتلقّت سكاكين الغدر بتورّط بعضهم مع عصابة الإخوان وزمر التكفير.
تخرج عن هذا السياق البائس والمتعفّن فصائل ومجموعات فلسطينية تتقدّمها الجبهة الشعبية والجهاد الإسلامي وأجنحة المقاومة في حماس وجبهتا القيادة العامة والنضال الشعبي وحالات كثيرة غير مقرّرة داخل حركة فتح، لكن من غير مشروع سياسي وطني تحرّري يوحّد هذه المكوّنات ويطلق الفرز السياسي والتنظيمي في الواقع الفلسطيني، وسوف تستمرّ جولات التحرك الشعبي التي تتلقى الطعنات في الظهر من قلب البيت وترتدّ في حالة سكون وإحباط.
إنّ الطريق إلى نهضة وطنية فلسطينية جديدة يرتبط بإسقاط الأوهام الثلاثة وتخطّي تعبيراتها السياسية في البنيان القيادي الفلسطيني: وهم الدولة في الضفة المحتلة، وهم الهدنة الطويلة في غزة المحاصرة ووهم المواطنة في قلب الكيان الاستيطاني الصهيوني.
إنّ النضال الفكري والسياسي لحسم الصراع في هذه المحاور الثلاثة هو الطريق لانتصار خيار المقاومة والتحرير. وهي مسيرة شاقة وطويلة لا تبدو أهدافها قريبة المنال في ظلّ ما يبذله الصهاينة ومعهم الغرب الاستعماري وحكومات الرجعية العربية وتنظيم الإخوان المسلمين وتركيا من جهود لمنع تطور حركة شعبية فلسطينية تحرّرية تشعل جذوة الكفاح الوطني ضدّ الاستعمار الصهيوني بالأفق الواقعي الوحيد وهو تحرير فلسطين.
الشباب الفلسطيني المناضل يهزّ بهبّته خرافات القادة الذين شاخوا في علب التكيّف مع الاحتلال، وفي المطابخ الرجعية الاستعمارية، وهو يتحدّى ما جعلوا منه مسلّمات عقيمة لتدجين شعبهم وحتى يولد الجديد المقبل في مخاض الدماء والبطولات سوف تدور الهبات في حلقة متعاقبة من النهوض والخمود.