الكيان الفاشي و«العنف المقدس» د. فايز رشيد
حتماً إن الصهيوني في صميمه لا يكره نفسه فقط، بل يلعنها من داخله في كثير من الأحيان، لأنه يكره ويلعن العالم بأسره، وبخاصة عندما يملأ عقله بالتعاليم الصهيونية وأضاليلها، وعندما يلف حول عنقه حبل «السوبرمانية» فيرى كل الآخرين أقزاماً، يتوجب عليهم خدمته، والدوران في فلكه، لأنه الأنقى والأطهر في الجنس البشري.
لولا هذا الشعور لن يستطيع اقتراف المجازر بحق شعبنا وأمتنا واحدة تلو الأخرى، بدءاً من مجازر دير ياسين، مروراً بمجازر مدرسة بحر البقر، وقانا الأولى والثانية، وصولاً إلى مجازره المتعددة الحالية في وطننا الفلسطيني الكنعاني العربي الخالد أبد الدهر…
وطننا المسكون في روح كل فلسطيني وعربي، وطننا الأبي العصي على الكسر، ينتفض ترابه هو الآخر مؤكداً أنهم الطارئون العابرون حتماً في تاريخه، تماماً مثل مقاومة شعبنا الذي يجترحها بالسكين والمفك، بالحجر وعجل السيارة وزجاجات المولوتوف رغم كل هذا الإجرام الصهيوني بحقة، بهدف كسره وإخماد روح المقاومة لديه.
لكن الصهاينة لا يعرفون معدن شعبنا الماسي، ولا كونه مثل زهرة عباد الشمس، لا يتطلع إلا إليها. سينحسر الصهاينة من أرضنا.. وهذه حتمية التاريخ وحقيقته الناصعة.
لقد أصدر عدد من الحاخامات اليهود (الإثنين 24 أغسطس/آب الفائت) فتوى تقول «اقتلوهم وأبيدوهم بلا رحمة للحفاظ على «إسرائيل». هؤلاء الحاخامات شكلوا قبل عشر سنوات حركة أطلقوا عليها اسم «هسنهدرين هحداشا» (مجمع الحاخامات الجديد). أسس هذه العصابة الحاخام عيدان شتاينليزتس، الحاصل على «جائزة إسرائيل» و«وسام الرئيس» «الإسرائيلي»، وهما يعدان «أرفع» الجوائز «الإسرائيلية». هذه الحركة رسمت هدفاً واحداً لها هو تنمية فكرة القتل والعنف في نفسية الأجيال الجديدة من اليهود، هدفها تعميق الإيديولوجيا السوبر فاشية والسوبر عنصرية في ذهنية اليهودي.
بالضرورة هناك إيديولوجيا إنسانية.. وأخرى لا إنسانية كإيديولوجيا العنف والقتل الصهيوني. هناك العنف المجرم اللامشروع.. كالعنف والقتل الصهيوني، وعنف مشروع هو عنف حركات التحرر الوطني (الكفاح المسلح) ضد أعدائها من أجل الدفاع عن شعبها وحقوقه الوطنية وتحرير أرضها. هذا الكفاح المسلح شرعته الأمم المتحدة بقرارين يحملان الرقمين: 3034 للعام 1972 والقرار رقم 3314 للعام 1974. الأمم المتحدة اعتبرت: «أن الصهيونية حركة عنصرية وشكل من أشكال التمييز العنصري» كما جاء في القرار رقم 3379 للعام 1975، ومعروفة ظروف إلغاء القرار عام 1991 بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفرد أمريكا في الساحة الدولية، وظهور عالم القطب الواحد.
لطالما استرعتني قضية القتل المتوحش، بالتساؤل: كم من الحقد ينزرع في عقل ووجدان القاتل كي يقوم بارتكاب جريمته؟ هذا في حالات القتل الفردية… فما بالك بالدول؟. قرأنا عن سفاحين كثر في التاريخ مثل هتلر، وموسوليني، وجنكيز خان، وإيفان الرهيب وغيرهم، لكن هؤلاء مثلوا حالات فردية.. فالظاهرة التي مثلها كل هؤلاء في التاريخ، كانت قصيرة الأمد. أما ما يتعلق بإرهاب الحركة الصهيونية وتمثيلها السياسي «الإسرائيلي»، فهو ما زال قائماً على مدى حوالي السبعة عقود.. الفرق بينه وبين فاشية أولئك.. أنه عنف مؤدلج ليس من قبل زعيم أو بضع زعماء في الكيان، بل من أغلبية اليهود.. فمثلاً جاء في إحصائيتين لصحيفتي «هآرتس» و«يديعوت أحرونوت» أنه في عام 2025 فإن النسبة المؤيدة لأحزاب المتطرفين الأصوليين الفاشيين من اليهود «الإسرائيليين» ستتراوح بين 59% -62%. مقالات وأبحاث كثيرة كتب بالعربية والأجنبية تناولت ظاهرة العنف والقتل في الفكر الصهيوني كظاهرة «إسرائيلية»، من زوايا مختلفة.. ومن أهم هذه الكتب: «الحركة الصهيونية ل(إسرائيل كوهين- 1945). و«الهدنة العنيفة» ل(هاتشون-1958) و«الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية» ل(ويليام براد فورد). و«الجذور الإرهابية لحزب حيروت «الإسرائيلي»» ل(بسام أبو غزالة). و«ثقافة العنف في سوسيولوجيا السياسة الصهيونية» ل(د.عبدالغني عماد 2001)… ومن أفضل من كتب أيضاً عن الموضوع نعوم تشومسكي.
العنف يعني ببساطة «التعسف والإفراط في استعمال القوة ووسائلها»، وقد ارتبط في العصر الحديث بالحروب العدوانية واحتلال أراضي الغير واغتصاب إرادات البشر. وكتب إيف ميشو عن «العنف الجسدي»، وبيير بوردو عن «العنف الرمزي»، وهناك «العنف الفكري» أيضاً….
لقد عرف التاريخ البشري أشكالاً عديدة من العنف تتراوح بين التجويع وصولاً إلى القتل، ومن السمات المميزة للقرنين الزمنيين الماضي والحالي، أن الأول شهد الحربين العالميتين الأولى والثانية. وانتهت الثانية بالكارثة النووية (هيروشيما وناغازاكي)، والعديد من الإبادات الجماعية، وأشكال عنصرية واضطهاد، وحروب استعمارية وأنظمة عسكرية، ومعسكرات اعتقال وإجرام.
بالطبع، أسهم التقدم التكنولوجي المعاصر في تطوير وسائل التسلح والقتل والإبادة الجماعية… وأغلبية هذه الوسائل استعملتها عصابات الإرهاب الصهيونية قبل عام 1948، وبعد إنشاء «إسرائيل» فمثلاً، فإن جابوتنسكي التحق بعصابات «الهاجاناه» الصهيونية لقتل العرب والفلسطينيين وبخاصة في القدس، وروج لإقامة «إسرائيل» بالقوة… ومن أقواله: «إن الاقتتال بالسيف ليس ابتكاراً ألمانياً، بل إنه ملك لأجدادنا الأوائل، وقد نزل علينا من السماء». بن جوريون آمن بالمذابح والفكر التوسعي، وترك حدود «إسرائيل» مفتوحة، وكان من مؤيدي مقاطعة العرب وطردهم من أراضيهم، هؤلاء كما غولدا مائير (التي تنزعج من كل صباح يولد فيه طفل فلسطيني).. كذلك ليفي أشكول ومناحيم بيغن الذي كان يقول: «إن قوة التقدم في تاريخ العالم ليس السلام بل السيف»، وكما شامير، وبيريز وشارون، وباراك ونتنياهو كلهم دعموا بشدة التوسع في سياسة الاستيطان، وكانوا وما زال الأحياء منهم يعتقدون بأن الضفة الغربية هي «يهودا والسامرة»، وهي جزء من «أراضي إسرائيل».
«إسرائيل» حاولت أن تربط بين عنفها والمقدس.. أي أن تجعل من كل مذابحها وجرائهما بحق شعبنا وأمتنا.. مسألة مرتبطة بالإله… وهو الذي يبررها وفقاً لمعتقدات الحاخامات التحريفيين.. بحيث تبدو مسألة ربانية، ما على اليهود إلا اعتناقها وممارستها فعلاً على الأرض.
للعلم.. الدراسات العلمية حول مفهوم «المقدس» لم تتفق فيما وصلت إليه من نتائج، سواء تعلق الأمر بالمفهوم أم بالأصول، ولعل أحسن ما نحيل عليه في هذا الصدد، «الموسوعة العالمية»-1998. يعزو الكاتب رينيه جيرار في كتابه الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان «العنف والمقدس» أصول نشأة فكرة المقدس إلى العنف، باعتباره نسق المقدس ونظامه، إذ يقول: «يجب أن نضع المحاكاة والعنف في أصل كل شيء لنفهم الموانع والمحرمات في مجملها». (الباحث عبدالقادر شرشارستارتايمز10. أكتوبر 2011) وعلى الرغم مما تحمله هذه الرؤية لمفهوم المقدس والعنف من اضطراب وتناقض، فإنها تستبعد على الأقل المقاربة الفرويدية القائمة على الدافع الجنسي، والاعتقاد الشائع أن عقدة أوديب هي أصل المقدس والمبدأ الخفي لطقوسه القربانية. «العنف والمقدس والجنس»، تركي علي الربيعو، ويستبعد الباحث «التجاني القرماطي» صحة هذه المقولة في بحثه المعنون ب:«المقدس والعنف» متسائلاً كيف يمكن «أن يكون العنف أصلاً للمقدس؟». لكن معروف بأن من أهداف المقدس في مظهريه: العقائدي والطقوسي الحد من احتدام العنف وتفشيه في المجتمعات الإنسانية؟.
يأخذ مفهوم المقدس لدى «روجي كايو»: بعداً روحياً، إذ يبدو المقدس كمقولة حساسة، ينبني عليها السلوك الديني.
من كل ما سبق وعلى هذا الأساس.. تمثل النصوص التوراتية، والوثائق اليهودية، ومجمل نتاج الفكر الديني اليهودي في مراحل مختلفة من التاريخ، نموذجاً فريداً للدوغمائية الصهيونية. بحيث لم يكف الحاخامات اليهود عن تغذية تلك الأساطير القبلية المؤسسة للسياسة الصهيونية باستمرار روجيه غارودي.. الأساطير المؤسسة للسياسات «الإسرائيلية»، و..«إسرائيل» شاحاك.. الديانة اليهودية، التاريخ اليهودي- وطأة ثلاثة آلاف سنة). بالتالي، أصبح العنف والقتل للأغيار (غير اليهود) بالنسبة إلى المتدينين اليهود ذا مضمون عنصري استعلائي مقدس…. «شعب الله المختار» وكافة المقولات التضليلية الأخرى. معروف أن السلطة الدينية والحاخامات يشكلان الحاكم بأمره في مصدر التشريع لليهود. هكذا يعتبر اليهود أن جرائمهم مقدّسة ولهذا يوغلون في بشاعة طرق ووسائل قتلهم الفاشي الأسود لأبناء شعبنا.
(الخليج)