الأسد واستراتيجية الصبر لاستنهاض قوى التاريخ والجغرافيا
ناصر قنديل
– تبدأ حكاية الرئيس السوري مع الإدهاش والإعجاز باعتماد الصبر فلسفة لخوض الحرب، منذ الأيام الأولى للحرب التي تعرّضت لها سورية ووصفها منذ البدايات بالمؤامرة، لكنه تعامل معها كحركة إصلاحية احتجاجية، بمعزل عن كلّ ما يريد خصومه إلصاقه به من أوصاف، فكلّ من عايش الأزمة السورية في البدايات يستطيع أن يشهد لحقيقتين، الأولى هي رفض الرئيس السوري السماح لعناصر الأمن المولَجين مواكبة حالات التجمع والتعامل معها بحمل السلاح ومعاقبة كلّ من يُضبط ومعه ذخيرة لمسدسه الفردي، من دون أن يعني هذا القول إن لا أحداث وقعت كان الأمن السوري فيها مبادراً أو مستدرَجاً للعنف، لكن على مستوى القرار يعرف القريبون كم كانت درجة التململ والتذمّر في بنى وهياكل المؤسسات الأمنية من هذا التشدّد من جانب الرئيس الأسد في إظهار المرونة القصوى مع التجمّعات الاحتجاجية، وصولاً إلى رفض اللجوء لإنزال الجيش السوري إلى المدن والأرياف وتكليفه مهام حفظ الأمن طوال السنة الأولى من الأزمة، وتمسّك الرئيس الأسد بهذه السياسة، رغم ما تعرّضت له مراكز الشرطة والأمن وبعض وحدات الجيش من هجمات متفرّقة، وكان دائماً يدعوها إلى ضبط النفس وامتصاص الأذى، بينما كان ينفق نصف وقته على استقبال المجموعات التي تتشكّل منها قيادات محلية لمواجهة الدولة ويحاورها ويتشاور معها في المخارج والحلول، وهم في الغالب من درجة متدنيّة ثقافياً عن خوض مثل هذا الحوار، ومن جهة مقابلة كان يُصرّ على تجديد وتكرار محاولات الحوار السياسي مع الشخصيات والرموز المعارضة، ويقدّم المبادرة تلو الأخرى لتلبية ما يُعلَن من قبل هذه الجماعات من مطالب، رغم رفضها للحوار واكتفائها بدعوته إلى الرحيل، فكرّر إصدار مراسيم العفو التي كان يعود أغلب المستفيدين منها إلى ساحة القتال، مراراً، وذهب أبعد من مطلب المعارضة بتعديل الدستور وإلغاء المادة الثامنة إلى حدّ صياغة دستور جديد، لم ينَل حتى مجرد مناقشة من قبل قادة المعارضة الذين كانوا يقولون إنه يكفيهم إلغاء المادة الثامنة من الدستور، وعندما فتح الباب لانتخابات برلمانية ورئاسية تنافسية أحجمت المعارضة عن التجاوب مع مجرد تحويل النقاش حول ما وصفته بعدم جديتها إلى فرصة لكسب معركة إعلامية تثبت بالوقائع لا جدوى الرهان على حلول تفاوضية، فامتنعت المعارضة عن تقديم شروطها لجعل الانتخابات تتمتع بجدية التنافسية التي تتذرّع بها للمقاطعة والسعي لربح الجولة بفرض شروطها أو كشف عدم استعداد الدولة لتوفير شروط هذه الجدية، كما يُفترَض بأيّ معارضة.
– منذ البدايات كان يتسنّى لكلّ متابع لتصرّف الرئيس الأسد تجاه الحرب أن يتحقق بسهولة من يقينه بلا جدوى ما يقوم به من إجراءات وما يُقدم عليه من قرارات، في السعي إلى علاج تفاوضي، ويقينه بأنّ الآتي أعظم، وأنّ الحرب أكبر من معركة مع فريق محلي يحمل رؤيته المخالفة لسورية كدولة ونظام حكم، لكنه كان يخوض حربه غير المباشرة المستندة إلى فلسفة الصبر عبر هذه المرحلة الأولى من السلوك، والإدارة، بتقديم الفرصة لشعبه وحزبه وجيشه، وحلفائه، لتكوين فهم يتطابق مع فهمه لما يجري وما سيجري، ليقينه الموازي أنهم الأساس الذي يستند إليه عندما تسقط هذه المرحلة التفاوضية، فيخرج منها ومعه اليقين المشابه بلا جدوى الحلول التفاوضية من غالبية الشعب والحزب والجيش والحلفاء، ومثلما يرتفع مستوى الانكشاف في خلفيات وسلوكيات معسكر الأعداء المحكوم بجدول زمني لحربه، سيرتفع منسوب اليقين بأنّ ما يجري هو حرب وليس له أيّ وصف آخر.
– في المرحلة الثانية من الحرب، عندما صار السلاح هو الأداة الحاسمة وقالت هيلاري كلينتون العام 2012 لمن أسمتهم «الثوار» لا ترتضوا إلقاء السلاح والتفاوض السياسي، وأفشلت مهمة المبعوث الأممي كوفي عنان، اقتصرت الإدارة العسكرية التي رسم خطوطها الرئيس الأسد على الصمود، وحماية مواقع وخطوط ذات أهمية استراتيجية من السقوط بيد الجماعات المسلحة، وصارت فلسفة الحرب عنده قائمة على معادلة صبر جديد، هادف إلى كشف البعدَيْن العميقين للحرب، طالما صارت حرباً سافرة، لتظهر حرباً خارجية لا حرباً أهلية، ويظهر الإرهاب كمكوّن حاكم وحاسم في تكوين البنى التي تقاتل ضدّ الدولة السورية، ومنح الفرصة الثانية للشعب والحزب والجيش والحلفاء لملاقاته على هذه المنصة في فهم الحرب، وحصر مهام الجيش والأمن عسكرياً بما يتيح أعلى درجات الصمود وأوسع مدى ممكن له، ضمن هدف سياسي لا عسكري، هو توضيح وتثبيت هذين البعدَيْن الخلفيين الحاكمين للحرب، البعد الخارجي وحجم دور الإرهاب. ولما تحقق هذا بدأت مرحلة الصبر الثالث، وهي تظهير قدرة سورية بشعبها وجيشها وتعاون حلفائها، بحرمان هذا الخارج وهذا الإرهاب من تحقيق النصر، وبدلاً من تحقيق النصر جاءت الأساطيل ورحلت، وفشل الرهان على سقوط المدن الكبرى، وتخطّت سورية نماذج تونس ومصر وليبيا واليمن، ونجحت باستدراج العدو إلى المسرح وإدخاله في المأزق، حيث نصف نصر يعني حرب استنزاف، وخطر تقسيم، وسورية قادرة على المزيد من الصمود، حتى يحين موعد يقين المحرك الخارجي للحرب بطابعها العبثي الميؤوس من تحقيق النصر بمواصلتها من جهة، والخطر المتأتي من ترك الإرهاب يبني مرتكزات مشروعه الخاص، ويستثمر على مشغّليه بدلاً من أن يتوهّموا هم الاستثمار عليه، من جهة أخرى، وفي المقابل تسليم الجميع بمن فيهم الأعداء بخطر التصالح مع خطوط التقسيم الجغرافي لسورية، لأنها ستتسبّب باهتزاز عناصر التماسك في كيانات كالسعودية وتركيا لا يتحمّل صاحب قرار الحرب اهتزازها، ولا يمكن منع ذلك طالما بقي العبث بتماسك الكيان الجغرافي لسورية.
– عند هذه المحطة يبدأ صبر الأسد الرابع، وهو تقديم منصة فرص النصر التاريخي أمام الحلفاء، في حرب عالمية خيضت ضدّ سورية وصمدت ومنعت انتصار أعدائها الذين يعادلون نصف العالم وأكثر، وبات للنصر الحاسم وصفة واحدة، هي حرب عالمية نزيهة على الإرهاب الذي يتهدّد الجميع من حلفاء وخصوم، والذي تتساوق شروط الحرب عليه مع معايير القانون الدولي، ومعايير الأخلاق الإنسانية، والمصالح الوطنية للدول، وفوق كلّ ذلك، في السياسة، فهذا الإرهاب الذي صنعه أعداء سورية واستجلبوه إليها، ومنحوا الحرب عليه صفة القدسية، وجعلوها شعاراً، وانتهكوا سيادة سورية باسمها. هو الإرهاب الذي يسهّل اليوم على حلفاء سورية جعل الحرب عليه قضيتهم، وحفظ أمنهم وأمن العالم منه، دون الحاجة لإذن أحد، بعدما حرث الأعداء الأرض وبات يكفي طرح البذار، فكل شيء جاهز أمام فشل الحلف الدولي الآخر أن يتقدّم حلف جديد ويصنع النصر ويفوز بقصب السبق برسم خارطة الشرق الأوسط الجديد وعبره بدور قيادي في النظام العالمي الجديد.
– استثمر الأسد على قوة التاريخ والجغرافيا لدى السوريين بثقة مدهشة، متوقعاً سلفاً نصره في حرب الصبر الأولى، والثانية، واستثمر على قوة التاريخ والجغرافيا لدى حلفائه بثقة أشدّ تسبّباً بالدهشة، متوقعاً سلفاً نصره في حرب الصبر الثانية والثالثة، وها هو يُنهي حرب الصبر الرابعة، ليبدأ اليوم حربه العسكرية الحقيقية نحو النصر.
(البناء)