روسيا وسورية: الحسم العسكري يتقدّم الحلّ السياسي د. عصام نعمان
يحتدم السجال حول أهداف حملة روسيا الناشطة ضدّ تنظيمات الإرهاب في سورية. أهداف متكاملة أحياناً، متضاربة أحياناً أخرى يقول مسؤولون رسميون ومحللون سياسيون ومعلّقون إعلاميون إنّ روسيا بوتين تريد تحقيقها بغية العودة إلى مسارح العالم كقوة عظمى.
من بين هذه الأهداف، واحدٌ يتفق الجميع على توصيفه وإنْ كانوا يختلفون حول تحديد نطاقه. إنه دحر الإرهاب متمثلاً بتنظيمات متعدّدة في أسمائها وارتباطاتها، لكنها موحّدة في عقيدتها ووحشيتها. في مقدّم هذه التنظيمات، تأتي «الدولة الإسلامية في العراق والشام داعش» تليها «جبهة النصرة». غير أنّ ثمة خلافاً بين الولايات المتحدة وروسيا حول تحديد هوية مجموعة كبيرة من التنظيمات الناشطة على الأرض وخطورتها، متحالف بعضها مع «داعش» وبعضها الآخر مع «النصرة» وأخرى مع دول عربية وإقليمية.
روسيا، بلسان وزير خارجيتها سيرغي لافروف، تعتبر كلّ هذه التنظيمات إرهابية وتقوم طائراتها الحربية بضربها. الولايات المتحدة، بلسان بعض مسؤوليها، ولا سيما رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس شيوخها السيناتور جون ماكين، تتهم روسيا بأنّ غارات طائراتها «كانت ضدّ الأشخاص والمجموعات التي تموّلها وتدعمها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية C.I.A». لافروف سارع في توضيحٍ لافت الى استثناء إحداها بقوله إنّ موسكو «لا تعتبر الجيش السوري الحر تنظيماً إرهابياً بل ترى أنه يجب أن يكون جزءاً من العملية السياسية، وهذا ضروري لتأمين مفاوضات ثابتة للتسوية السياسية».
يصعب على «الجيش الحر» تكذيب واقعة تمويله ودعمه من وكالة الاستخبارات المركزية، لكن لن يصعب عليه الإعلان بأنّ طائرات روسيا لا تستثني مواقعه القليلة في شمال سورية من غاراتها المدمّرة. الأمر نفسه يصعب على واشنطن، لا سيما أنها منشغلة في درس وتحليل واستشراف مرامي الحملة الروسية الواسعة النطاق في سورية والمرشحة للتمدّد إلى العراق.
كثيرة هي التكهّنات الأميركية والإسرائيلية والأطلسية حول المرامي القريبة والبعيدة لحملة روسيا الناشطة ضدّ الإرهاب وتداعياتها في الحاضر والمستقبل المنظور. لعلّ رسم لوحة سريعة لخصائص الحملة الروسية وملابساتها يُسهم في تكوين فكرة عن مراميها على النحو الآتي:
أولاً، باغتت الحملة الجميع في توقيتها وحجمها ونطاقها. ذلك أنّ سلوكية موسكو، عشيةَ انتقال الرئيس بوتين إلى نيويورك وخطبته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، لم تُوحِ بتحركٍ وشيك على هذا المستوى من الحجم والفعالية و… الجرأة.
ثانياً، لفتت الحملة الجميع بأنها تجري في إطار القانون الدولي. فقد استجابت موسكو في حملتها لطلبٍ من الرئيس السوري ما يؤكد احترامها لسيادة سورية، كما أكدت أنّ حملتها تتكامل في إطار قرار سابق لمجلس الأمن الدولي بمواجهة الإرهاب، وأنها تستهدف جميع تنظيماته. كلّ ذلك في حين أنّ الولايات المتحدة لم تراعِ في حربها على الإرهاب أيّاً من هذه الشروط والاعتبارات.
ثالثاً، حرصت روسيا على التعاون بجدّية مع المجتمع الدولي في مواجهة الإرهاب باقتراح قدّمته إلى مجلس الأمن يقضي بإقامة تحالف دولي لهذا الغرض في إطار الأمم المتحدة يضمّ جميع الدول ذات الصلة وفي مقدّمها سورية وإيران، في حين أنّ الولايات المتحدة كانت ترفض دائماً التعاون مع هاتين الدولتين في هذا السبيل.
رابعاً، اختارت روسيا توقيتاً مناسباً لمباشرة حملتها. فالولايات المتحدة منقسمة على نفسها إزاء مسألة الاتفاق النووي مع إيران، والموقف من إيران وتحديات تنامي نفوذها في الشرق الأوسط بعد استعادة أموالها المجمّدة في دول الغرب الأطلسي، ومتطلبات مواجهة روسيا في أوكرانيا، وتضارب مواقف المرشحين ومصالحهم مع اندلاع معركة الرئاسة الأميركية، وانشغال تركيا بانتخاباتها من جهة وبحربها المتصاعدة مع أكرادها من جهة أخرى، وانشغال السعودية بحربها في اليمن، وانشغال «إسرائيل» بمقاومةٍ شديدة يشنّها الفلسطينيون ضدّ محاولاتها المتمادية للاستيلاء على الأقصى. كل هذه الانشغالات تحول دون قيام تنسيق مجدٍ بين خصومها الدوليين والإقليميين لمجابهة حملتها ضدّ الإرهاب في سورية.
خامساً، أسفرت، على ما يبدو، محادثاتُ روسيا مع إيران وسورية وتعاونها معهما في مجالات عدّة وضمناً مع العراق وحزب الله في لبنان عن قيام «تفاهم استراتيجي» بين هذه الأطراف لتحقيق أهدافٍ محدّدة أبرزها: دحر تنظيمات الإرهاب خصوصاً «داعش» و«النصرة» في سورية والعراق استعادة الوحدة الجغرافية والسياسية لهذين البلدين مواجهة الدول الإقليمية التي تفتح حدودها للإرهابيّين القادمين من شتى أنحاء العالم ولا سيما من روسيا ودول آسيا الوسطى والقفقاس وملء الفراغ الناجم عن انحسار نفوذ الولايات المتحدة في دول الشرق الأوسط الكبير. تجلّى هذا التفاهم الاستراتيجي بتعزيز التنسيق والتعاون العسكريين بين سورية وكلٍّ من روسيا وإيران وبالتالي نشر قوة جوية وبرية روسية، وقوة من الحرس الثوري الإيراني، ووحدات من حزب الله في غرب سورية ووسطها، كما بإقامة غرفة عمليات وتبادل معلومات مشتركة بين روسيا وإيران والعراق وسورية مقرّها بغداد.
يمكن الاستنتاج من استقراء هذه التطورات السياسية وواقعات أخرى ميدانية أنّ أطراف «محور الممانعة والمقاومة»، بالتعاون مع روسيا، قد اتفقت على أولوية الحسم العسكري كخيار يتقدّم الحلّ السياسي، وأنها قرّرت دعم الجيش السوري في هجومه المرتقَب على مختلف المجموعات الإرهابية في منطقة سورية الوسطى الممتدّة من شمال محافظة حمص إلى محافظة إدلب مروراً بغرب محافظة حماة وصولاً إلى الأطراف الجنوبية لمحافظة حلب. ذلك أنّ إحكام السيطرة على وسط سورية يحمي مصادر الإمداد اللوجستي وخطوطه على طول الساحل السوري محافظتي اللاذقية وطرطوس ويمنع تالياً أيّ محاولة لشطر سورية إلى نصفين في وسطها، كما يعزز مواقع انطلاق الجيش السوري لاحقاً لتحرير محافظات الرقة والحسكة ودير الزور ومن ثم شمال محافظة حلب من الجماعات الإرهابية.
هل تردّ أميركا على روسيا بإجراء أقوى من تعزيز أسطولها الجوي في قاعدة ديار بكر التركية؟ أم بتزويد التنظيمات المموّلَة والمدعومة من استخباراتها المركزية بصواريخ دقيقة متطورة ضدّ الطائرات لاستنزافها وحلفائها؟ أم يمسّها جنون «تكفيري» فتحاول التخلص من بشار الأسد شخصياً؟
في هذه الحال، كيف تردّ روسيا وحلفاؤها؟ سؤال مفتوح على شتى الاحتمالات.
(البناء)