الحركيّون ثريا عاصي
أُطـْلقتْ أثناء حرب التحرير الجزائرية، تسمية «الحركيّ» على شخص كان في أغلب الأحيان مسكيناً وجاهلاً فسُهِّل على المستعمر تضليله واستمالته إلى محاربة جبهة التحرير الوطني. وصل عدد الحركيّين، أعوان الجيش الفرنسي في الجزائر، إلى حوالى مائة ألف. كانوا يشاركون في مواجهات عسكرية، ويُستخدمون في اختراق صفوف المقاتلين الوطنيين، وفي مهمّات استطلاعية، ويُكلّفون اغتيال الناشطين الجزائريين في الجزائر وفي فرنسا أيضاً.
يتّفق الدارسون لهذه الظاهرة على أنّ الإمبريالية تحتاج عادةً إلى عملاء لها من السكان الأصليّين، وأحياناً توظّف لهذه الغاية أشخاصاً أجانب ترسلهم إلى البلاد المستهدفة، ويـُرجعون أسباب انضمام «الحركيّين» إلى جيش المستعمر إلى ثلاثة أسباب: الضغوط التي يمارسها المستعمر ـ خشونة معاملة الوطنيين ـ أخيراً الأجر الشهري أو اليومي: الفقر كافر ! «يحمي سكان الريف أنفسهم بأيّ وسيلة، حتى إذا كانت هذه الأخيرة ضارّة بالقضية الوطنية» (محمد عربي).
أنا على يقين من أنّ قراءة تاريخ حرب التحرير الجزائرية ضرورية ولازمة لجميع الذين يرزحون تحت نير المستعمر بوجهٍ عام، وهي لازمة وضرورية لشعوب البلاد العربية بوجهٍ خاص، ولكن هذا موضوع لستُ بصدده الآن، فما حملني في الواقع على التذكير بقضية «الحركيّين» هو وفاة أنطوان لحد، ضابط سابق في الجيش اللبناني، انشقّ عن المؤسسة العسكرية أو كان متقاعداً، لا أدري، ليخلف ضابطاً آخر وافته المنية. كان هذا الأخير قد انشقّ بدوره عن المؤسسة نفسها، خلف الضابط أنطوان لحد الضابط سعد حداد في قيادة جيش «لبنان الحر» (جيش لبنان الجنوبي)، جيش تابع لقوّات المستعمرين الإسرائيليين في المناطق اللبنانية الواقعة جنوب نهر الليطاني، والمحاذية لحدود فلسطين!
وفي هذا السياق يحزّ في النفس ما يجري في فلسطين، في الضفة الغربية، حيث انّ شعار أوسلو «الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف» انقبض إلى أضيق الحدود. إذ تحوّل المسجد الأقصى إلى ساحة مواجهة بين المقدسيّين من جهة، وبين المستعمرين المستوطنين من جهة ثانية. صار المصلّون في المسجد الأقصى يؤدّون فريضة الصلاة أمام صفٍّ من الجنود الإسرائيليين في داخل المسجد. في الوقت نفسه، وعملاً بالتنسيق الأمني بين القوات الإسرائيلية وبين جهاز أمن السلطة الفلسطينية، يتولّى هذا الجهاز الرديف لقوات المحتلّين، قمع التظاهرات المندِّدة بانتهاك أولى القبلتين لدى المسلمين، في مدن الضفة التي تقع تحت رقابة سلطة رام الله. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ جنرالاً أميركياً اسمه كيت دايتون، تولّى الإشراف على تجنيد وتدريب «جيش الحركيين» الفلسطينيين الذي يتجاوز عدده المائة ألف عنصر!
كم هو عدد «الحركيّين» في سوريا؟ نما إلى العلم أنّ أعضاء في «الائتلاف السوري» يتّصلون بزعماء المستعمرين الإسرائيليين. هذا لا يشكّل في الحقيقة مفاجأة نظراً إلى تبنّي مشيخة قطر «للثورة» في سوريا، وإلى انكشاف حقيقة الدور الذي اضطلعت به هذه الإمارة في إطار «الشرق الأوسط الجديد» في ظل هيمنة الإمبريالية الأميركية ـ الأوروبية على هذا الشرق. مجمل القول انّ قطر هي بوابة يدخل منها الإسرائيليون إلى بلاد العرب، ويدخل منها العملاء إلى إسرائيل ! لم يعد خافياً في السياق نفسه أنّ بعض فصائل المتمرّدين، والأرجح أنّ جميع الفصائل، تنسّق عسكرياً مع القوات الإسرائيلية، عبر هضبة الجولان وعبر الأراضي الأردنية، لا سيّما أنّ الحكومة الأردنية تفتقد القدرة على رفض أيّ طلب يتقدم به الإسرائيليون أو الأميركيون أو الفرنسيون أوالبريطانيون أو آل سعود.
لا يخفى على أيّ مراقب، أنّ في سوريا مقاتلين أجانب بعضهم ليسوا من أصول عربية. لا بدّ من الاعتراف أيضاً بأنّ الدول الغربية التي تنتهج سياسة استعمارية عنصرية، على نسق دولة المستعمرين الإسرائيليين، تُشرف على معسكرات تدريب «الحركيّين» السوريين والمرتزقة الأجانب قبل إرسالهم إلى سوريا. بالإضافة إلى هذا كلّه، يمكن القول والقطع، انّ جميع الشخصيات، وأعضاء المجالس، والائتلافات التي رعت ولادتها الدول الاستعمارية الغربية، طالبت بتدخّل هذه الأخيرة عسكرياً في سوريا، رغم أنّ فاجعة العراق ما تزال جرحاً نازفاً في الوجدان العربي، ورغم أنّ فاجعة ليبيا تمثّل الذروة في الجريمة والنزق الاستعماري. لا تسلْ عن العربدة في اليمن وفي البحرين، وأخشى ما يخشى أن يصيب مصر والجزائر ما أصاب العراق وسوريا!
إنّ أمة يستطيع المستعمر أن يجنّد من أبنائها جيشاً «حركياً» من مائة ألف عنصر، ليحاربها بهم ويذلّها ويشتتها، هي أمة مسكينة حقاً، عقّها أولادها!
(الديار)