لماذا الرئيس بري عدو الحراك؟ 1 ثورة من على من؟
ناصر قنديل
– ما شهده يوم الحراك والحوار أمس ليس مجرّد حادث عابر، بل ربما يتحوّل إلى مشهد متكرّر، ما قبل الذهاب إلى الفوضى، وبالتأكيد خطر انحراف التظاهرات التي ينظمها الناشطون الذين نزلوا وأنزلوا الناس معهم، بقوة ما منحوا من تغطية إعلامية فاعلة، وبضغط ما يعانيه الناس من ترهّل أداء الدولة وأجهزتها، وإهمال المسؤولين لحاجاتهم وحقوقهم، وإدارة ظهر السياسيين لمعادلات الحق والواجب في قراراتهم وخطواتهم، التي أنتجت خللاً فاضحاً في شكل النظام السياسي بحالته الراهنة، ومعه اختلال فضائحي في إدارة علاقته بالقضايا السياسية واليومية للبنانيين، من الفراغ الرئاسي والشلل الحكومي والتمديد النيابي وصولاً لقضايا الكهرباء والنفايات وسواهما، وما تفوح منه كله روائح الفساد والصفقات والتقاسم الطائفي الذي يحكم السياسة والاقتصاد والخدمات.
– الناس الموجودون في الساحات يزيدون وينقصون في كلّ مرة، لكنهم لم يمنحوا الداعين للتحرك مشهداً مماثلاً للذي منحوهم إياه في التاسع والعشرين من آب، وصار ذلك المشهد اليتيم حلماً لا يتكرّر، وهنا سؤال لم يطرحه الداعون على أنفسهم عن السبب، في هذا الإحجام الشعبي الذي حرمهم تسعة أعشار الذين ساندوهم ذات يوم، بعناد يريدون تعويضه بالمزيد من الإصرار على الشعارات ذاتها والمنهجية ذاتها والتعالي ذاته، «ثورة ثورة حتى النصر»، و«إنّا هنا باقون فلتشربوا البحرا»، ونعلم أنه عندما تسيطر الغوغائية على أيّ حركة شعبية أو سياسية يستحيل التقييم والتقويم، فصارت الزيادة والنقصان من ضمن هذا العشر المتبقي، ربعه يحضر مرة ونصفه مرة وكله مرة بحسب التحضير والإعداد والتنظيم والعنوان، وكلها عناصر تقنية لا تصنع من حراك نخبوي ثورة شعبية مهما شدّ المتحدّثون على كلماتهم ورفعوا نبرة صراخهم، أو تمطّت رقابهم وهم يؤكدون على أنهم هم وحدهم الشعب اللبناني.
– التلفزيون والإعلام عموماً مكبّر صوت، لا يمنح الواقف وراءه قدسية الرسولية، ولا حق إصدار الأحكام وتوزيع الشهادات، ولا صفة الواعظ، ولا حصانة الكهنة، ولا براءة القديسين، ولا عفوية الأطفال، فلا شيء يحدث مجاناً، ولا شيء يُقال بلا هدف، ولا هواء يُمنح لوجه الله عندما يكون الأمر مالاً ينفق بلا مردود، في مؤسسات يملكها رجال أعمال يعملون ويتعاطون في كلّ شيء بمنطق الصفقة الرابحة، ويبحثون في خاتمتها عن المردود، ويقيمون علاقاتهم الخارجية بحسابات لا يستطيعون الادّعاء أنها تختلف عن طبيعة ووجهة العلاقات التي تقيمها الأطراف السياسية الحاكمة التي يدّعون قيادة ثورة في وجهها، فالدول هي الدول وبرنامج الترويج للديمقراطية الذي يديره في الخارجية الأميركية آدم إيرلي، ليس برنامجاً علمياً تنتجه العبقرية الجامعية الأميركية، بل هو برنامج اختراق للسيادات الوطنية للدول أعدّته الاستخبارات الأميركية وفي لبنان كان تمويله من ضمن برامج الخمسمئة مليون دولار التي تحدث عنها ذات يوم جيفري فيلتمان لشيطنة حزب الله وأمينه العام، وانخرطت في البرنامج بعقود دسمة القناتان الفضائيتان المتخصصتان بالثورة اليوم، وقطر ليست دولة الصين الشعبية التي تريد تعميم فلسفة ماوتسي تونغ، أو حمد بن خليفة لا فرق، وفقاً لتجربة عزمي بشارة، ولا هي كوبا فيديل كاسترو، إنها محمية «إسرائيلية» مكشوفة لعلاقات التعاون المعلن والسري بين تنظيم «القاعدة» و«إسرائيل» مخابراتياً وإعلامياً ومالياً، وعقود التمويل والأسهم في شركات الإعلام ليست عملاً لا مضمون سياسي له، وعقود إنشاء وتدريب قنوات تلفزيونية في العراق مع بول بريمر غداة الاحتلال الأميركي للعراق كعقود الكتاب المدرسي في بلدان أعاد الناتو صياغتها، من العراق إلى ليبيا لا تمنح مجاناً وبحسابات ومعايير مهنية لا سياسة فيها.
– منذ بدء الحراك رفع شعار «كلكن يعني كلكن» وهو شعار ضدّ السياسة كعلم وضدّ الثورة، أي ثورة كهدف، العلم يقول إنّ في أيّ طبقة مركزاً يجري التصويب عليه، وفي أيّ سلطة محوراً يجب أن يشكل عنوان الاستهداف، ووفقاً لتحليل أبرز العقول التي استقطبها الحراك من الذين يشكلون نخباً سياسية وثقافية، الوزير السابق شربل نحاس لا يستطيع أي من الناشطين ولا أيّ من قناتي الثورة، التشكيك بعلمه ولا بنزاهته، فإنّ الأصل في الفساد هي السياسات، وليس خافياً أنّ ما عُرف بالحريرية السياسية والاقتصادية هي النهج الذي يحكم لبنان منذ ربع قرن، ولا يزعج أحداً في تيار المستقبل قول هذا الكلام، ولا كان يزعج الرئيس رفيق الحريري نفسه قول هذا الكلام، لا بل إنّ يوميات ووقائع السنوات المنقضية منذ اتفاق الطائف تقول إنّ اللعبة السياسية كانت موزعة بين اقتصاد يمسك به تيار المستقبل برموزه المختلفة، وأمن تمسك به سورية حتى انسحاب قواتها قبل عشرة أعوام فأمسكه تيار المستقبل بجهاز معلوماته، وتقاسمه مثلث المعلومات مع الجيش والمقاومة منذ حرب تموز وبعد السابع من أيار، وسياسة تقدّم التغطية الشعبية القانونية والدستورية لهذا التركيب المتداخل بين الأمن والاقتصاد. والأكيد أنّ تغييرات كانت تلحق بتكوين هذه الشريحة السياسية المطلوب منها توفير الغطاء لتقاسم الاقتصاد والأمن، وكان يعبّر عنها التغيير في تكوين الحكومات عموماً. لكن كما كانت الحريرية الاقتصادية محور الخطط والأداء الاقتصاديين، كان رئيس مجلس النواب نبيه بري اللاعب الحاسم في هذه الشريحة السياسية، التي تحفظ مصالحها مقابل تقديم التغطية السياسية للعبة الاقتصاد والأمن التي يحتلّ تيار المستقبل مركز المحور في الأولى وشريكاً وزاناً في الثانية، وبالتالي إذا كان لـ»الثورة» من هدف هو المساءلة عن الفساد أو الخلل الذي رتب الفشل الاقتصادي، فالمسؤولية لا تستقيم مع «كلكن يعني كلكن» لأنه شعار منافق يريد التغطية على توزع أعباء المسؤولية بالتساوي بين غير متساوين فينتج محاسبة المسؤول الرئيسي عن حصة لا تعادل جزءاً يسيراً من حصته الحقيقية من المسؤولية وتصير وظيفة «الثورة» شراء براءته. أما إذا كان قد أنجز الحساب مع هذا المسؤول وجاء وقت المحاسبة على من منح التغطية، فتكون المسؤولية الأكبر عند الرئيس بري، الذي لا ينفي شراكته ومسؤوليته الكاملة عن إدارة شؤون الدولة السياسية وتغطية سياساتها الاقتصادية وحفظ مصالح من يمثل من ضمنها.
– شعار «كلكن يعني كلكن» مضلل ومنافق، وغير علمي، لأنه باستثناء ثنائية المستقبل مع الرئيس بري، الباقون ليسوا أبرياء من أي مسؤولية، لكنهم ليسوا صنّاع اللعبة السياسية والاقتصادية، ولا هم عرابوها، وبين المستقبل وبري تكون المساءلة منصفة وليست مناصفة، عندما تحاسب في الاقتصاد تيار المستقبل وعن منح التغطية السياسية الرئيس بري، وتكون عملية عندما تدعوهما لتقديم مطالعة كلّ منهما لما فعل. وحتى اللحظة لم تناقش السياسات الحريرية علمياً ممّن يفترض أنهم «ثورة تغيير شاملة» ورموز تيار المستقبل يجاهرون أنّ سياسات تيارهم هي الأمثل للبنان حتى الساعة ولا من يناقشهم، والرئيس بري جاهز للردّ على من يسأله أو يسائله بأنه في ظلّ نظام طائفي لم تنضج موازين قوى لتغييره، لم يكن بالإمكان أفضل مما كان وليس هناك من يملك قدرة القول بخلاف ذلك. أما الآخرون في الحكومة والمجلس النيابي فهم شركاء موضعيون بحسب الملف والمنطقة والمرحلة، لكنهم ليسوا صنّاع اقتصاد ولا هم صنّاع سياسة، والقصد هنا ليس الملفات الفردية لصفقات ورشاوى، لمنتمين أو لرموز في هذا التيار أو تلك المجموعة، هي من نتاج الفساد الاقتصادي والسياسي لكنها ليست سبباً له.
– هل كان دعاة الثورة في خطابهم منصفين؟ حتى عندما رفعوا شعار «كلكن يعني كلكن» كشف كثير منهم أنّ القصد هو الزجّ بالاسمين الأقلّ تورّطاً في رسم وتخطيط مسار النظام السياسي والاقتصادي، واحد لشطبه من نادي المرشحين الرئاسيين هو العماد ميشال عون والثاني لتدفيعه ثمن مشاركته في الحرب في سورية لحساب قطر ومن تدعمهم في الحرب هو حزب الله، وجعل التطاول عليه ورقة مساومة وتفاوض بيد الاستخبارات القطرية في حروب الزبداني وما بعد الزبداني، ولم يخجل أحد صحافيّي جريدة عزمي بشارة على إحدى قنوات «الثورة» من وصف قائد المقاومة بالأشدّ فساداً لأنه يهدر دماء شباب لبنان في سورية، لتنصره شريكته في الحوار المتحركة مدنياً، بالقول إنّ إسقاط النظام يبدأ بالنظام الأمني الذي يمثله حزب الله، وإذا وضعنا شعار «كلكن يعني كلكن» جانباً، وافترضنا أنّ «الثورة» حصرت معركتها بالمساءلة المسؤولة بعدما أعلنت كفرها بالسعي لحلّ قضية النفايات وتنكرت لمنطلقات خداعها للبنانيين بشعارات تتصل بحياتهم، وترفعت عن سعيها لقضايا مطلبية، وصارت ثورة لتغيير النظام. فالبعد المتصل بجوهر السياسات الاقتصادية يستدعي القول إنّ هذه السياسات جرّت الخراب على البلاد، ويتحمّل مسؤوليتها تيار المستقبل. إذا كانت هذه هي قناعات القيمين والداعين والمنظمين، وإذا كانت لديهم شجاعة القول، وغريب أنهم لم يفعلوا شيئاً يدل على هذه ولا على تلك. ومن ثم يضيفون، ومن باب الاستطراد أنّ الرئيس بري لا يستطيع أن يتبرأ من الشراكة في المسؤولية لأنه رعى تقديم التغطية السياسية لهذه السياسات، هذا علماً أنّ الثوار الجادّين والجدّيين في ثورتهم يحصرون دائرة معركتهم بالجناح النشط والمحوري في النظام الذي يشكل عراب السياسات موضوع الثورة وهي هنا الاقتصاد والحريرية، ويسعى للتواصل مع الأجنحة الأخرى وتحييدها، وكسبها والسعي لإغرائها بأنّ مصالحها الحقيقية محققة مع الثورة بصورة أفضل. فهل شكل تعاطي الناشطين وراء الحراك، والإعلام المجنّد لخدمتهم مجاناً كشريك في الثورة الغيفارية، تجسيداً لهذه المعايير، أم أنّ الحرب كلها كانت إعلامياً وسياسياً على الرئيس بري، ولم يجر تناول رمز المستقبل الأول بكلمة واحدة سواء واضع السياسات الرئيسي الرئيس رفيق الحريري أو وريثه الرئيس سعد الحريري. وبالمناسبات التي يخرج فيها أناس عفويون أو من باب رفع العتب، ينال الرئيس فؤاد السنيورة بعضاً من رذاذ يتحمّله ولا يرفّ له جفن طالما هو يتلذذ بالرصاص المنهمر على الرئيس نبيه بري.
– لماذا يحدث هذا؟
(البناء)