مقالات مختارة

من يحتاج إلى التقديرات!: يوسي ملمان

 

كشفت قضية تسجيلات اهود باراك العلاقات المركبة التي تدار سرا وداخل الغرف المغلقة بين المستوى السياسي والمستوى العسكري الاستخباراتي. في المقابل، أنهى ديفيد اربيل، من الموساد سابقا، في هذه الايام بحثا شاملا حول العلاقات بين رؤساء الحكومات ورؤساء الموساد.

أربيل يقول: «مقالتي هي تلخيص لكتاب «القبطان ورئيس الموساد» الذي كُتب في أعقاب نقاشات أجريتها مع رؤساء الموساد والمدراء العسكريين لرؤساء الحكومة، وقد حذفت الرقابة الكثير من التفاصيل لاسباب لا استطيع فهمها. لذلك قررت أنه لا مجال لنشر الكتاب، وهذا مؤسف. وفي مقالتي هذه لا توجد أحداث أو أسماء حذفتها الرقابة».

في هذا الاسبوع سينشر الجزء الثاني والاخير من مقالة «من يحتاج إلى تقديرات الاستخبارات».

ساعة ونصف في الاسبوع

إن جوهر عمل الاستخبارات هو جمع المعلومات عن العدو، وإلى جانب الموساد توجد وحدات مهمة اخرى تابعة للاستخبارات العسكرية التي تختص بالاستخبارات العسكرية، و»الشباك» المسؤول عن افشال الإرهاب وحماية ممثليات إسرائيل في الخارج، ومسؤول عن الاستخبارات في يهودا والسامرة وقطاع غزة. وزارة الخارجية لها مساهمتها في الشؤون السياسية.

خلال ستين عاما من وجوده قدم الموساد الكثير من المعلومات المهمة، إلا ان جودة هذه المساهمة في مواضيع مركزية ـ مثل التحذير من الحرب (أو السلام)، تسلح جيوش العدو، نظريات الحرب وغيرها ـ كل هذه يمكن فحصها عندما تفتح الارشيفات المتعلقة بالامر، تدخل المستوى السياسي في عملية جمع المعلومات كان ضئيلا، بل وغير موجود تقريبا.

في العمليات التي تختبيء وراء القسم الثاني لاسم الموساد «المهمات الخاصة». بكلمات اخرى الحرب السرية، كان رؤساء الدولة يتدخلون كثيرا ومن السهل اجراء تقييم وتقدير لعمل الجهاز في هذه المجالات، التي تم نشر القليل منها، مثل عمليات احضار اليهود من المغرب واثيوبيا. ومن بين انجازات الموساد البارزة يمكن الحديث عن عمليات التشويش واحيانا احباط مبادرات تطوير سلاح الابادة الشامل في الدول المعادية، وافشال محاولات التنظيمات الإرهابية التي تعمل من معسكرات في الخارج من اجل ضرب اهداف إسرائيلية داخل إسرائيل وخارجها.

الامثلة البارزة التي ليست الوحيدة، هي الوصول إلى المعلومات التي مكنت من تدمير المفاعل النووي العراقي، والمعلومات التي كشفت عن المفاعل النووي السوري. وحسب مصادر اجنبية، فان العمل الموسع الذي قام به الموساد في إيران وخارجها ابطأ استكمال المشروع النووي العسكري ودفع طهران، اضافة إلى العقوبات التي فرضها الغرب، إلى تأجيل السباق نحو القنبلة.

إن الحاق الضرر بالبنى التحتية وبالنشاطات الإرهابية في الدول المستهدفة وخارجها، مثل عملية «أفيف هنعوريم» وقتل أبو جهاد، التي تمت بالتعاون مع الوحدات المختارة للجيش الإسرائيلي، قلص إلى حد كبير الطاقة الكامنة لدى التنظيمات الإرهابية لاستهداف المدنيين وأهداف إسرائيلية في البلاد والخارج. هذه الامور العملياتية حظيت بأهمية في لقاءات العمل التي أجراها رؤساء الحكومات مع رؤساء الموساد، وتطلبت احيانا لقاءات اخرى بمشاركة جهات امنية اخرى.

المفاجيء، حسب تشخيص دوف فايسغلاس، مدير مكتب رئيس الحكومة اريئيل شارون، هو أن رؤساء الموساد لا يستهلكون وقت القادة، حيث يعطي رئيس الحكومة وقتا قصيرا للقائهم، ساعة ـ ساعة ونصف في الاسبوع باستثناء النقاشات في المواضيع السياسية والامنية التي يشارك فيها رئيس الموساد وآخرون. ثلاث قضايا من القضايا التي اشتغل فيها الموساد حظيت بالوقت أكثر من غيرها: عمليات الاحباط على اشكالها ضد الجهات الإرهابية، تهريب السلاح لحماس وحزب الله وتسلح دول المنطقة بالسلاح الغير تقليدي.

موضوع مُركز

أحد المواضيع الحساسة التي كانت تطرح في لقاءات العمل بين رؤساء الحكومة ورؤساء الموساد كانت التصفية المركزة. في ولاية دغان زاد العدد والمفارقات كانت كثيرة. «هل وجدت صعوبة عندما أمرت بقتل نشيط إرهابي؟»، سألته. «لا»، أجاب دغان، «فعلنا ذلك فقط عندما كانت لنا معلومات قاطعة أن الشخص يديه ملطخة بالدماء أو أنه يخطط لعملية ضد إسرائيل».

هل عملية التصفية ناجعة؟ التجربة تثبت أن لكل شخص، بما في ذلك منفذي العمليات، بديل يكون احيانا أكثر صعوبة وقسوة منه.

دغان: «الردع كان الهدف، والنية كانت تشويش عملهم. وفي حالات كثيرة نجح الامر».

بتبريرات شبيهة، علل رؤساء الموساد الذين سبقوا دغان، لماذا أمروا بقتل منفذي العمليات ومرسليهم. تسفي زمير الذي بدأت في ولايته الحملة ضد التنظيمات الإرهابية في اوروبا الغربية، قال: «قمنا بالتصفية فقط عندما كانت المعلومات الاستخبارية مؤكدة، وبعد التأكد من أنه لن يتم الاضرار بالأبرياء. وبعد عرض الخطة على المستوى السياسي والمصادقة عليها».

«الكثير من العمليات ألغي في اللحظة الاخيرة»، قال ناحوم ادموني، «هكذا تصرفنا في الحالات التي كان فيها أبرياء بالقرب من الشخص المستهدف وخوفا من الاضرار بهم».

وماذا عن العمليات التي تحدث في دول معينة وتشكل مخالفة لقانون الدولة التي تتم فيها؟

«ضميري مرتاح»، قال اسحق حوفي، «كان واضحا لي أن السلطات الامنية في الدول التي يعمل فيها نشطاء الإرهاب ضدنا، لن يقوموا بتنفيذ العمل من اجلنا. وكان واجبنا هو منع التسبب بالضرر بالمدنيين وبالمصالح الإسرائيلية».

بدأ الملل من الامر عندما كان زمير رئيس الموساد. غولدا مئير أرادت أن يستخدم الموصاد وسائل دفاعية. ومنحت زمير الموافقة ليقوم بالمهاجمة في الدول الاوروبية ضد منفذي العمليات على أنواعهم. وفقط بعد أن اوضح لها رئيس الموساد أن الجهات الامنية المحلية لن تقوم بحماية المؤسسات والمواطنين الإسرائيليين في الخارج بالشكل الكافي». وكان تقديره أنهم لن يزعجوا الموساد في القيام بالعمليات. وتبين أن هذه الفرضية صحيحة. عمليات التصفية على ارض دولة اجنبية لم تشكل سابقة.

احدى مهام الموساد في بداية طريقه كانت مطاردة النازيين البارزين الذين شاركوا في قتل اليهود. القاء القبض على ادولف آيخمان وخطفه ومحاكمته في إسرائيل كان أحد انجازات رئيس الموساد في حينه، آيسر هرئيل. حينما كان خوفي رئيسا للموساد تم ارسال رسالة ملغومة للويس برونر، مساعد آيخمان الذي اختبأ في دمشق. وقد نجا من العملية. ومحاولة القاء القبض على «شيطان اوشفيتس»، جوزيف منغلاه، لم تنضج.

مع مرور الوقت أخذ عدد النازيين في التضاؤل وتوقف الموساد عن البحث عنهم. وقد أمر بيغن ادموني في 1982 باستئناف البحث عن بقايا النازيين، لكنه لم يعد يطلب ذلك بعد القول له إن من بقوا على قيد الحياة هم اسماك صغيرة وليس جديرا التركيز على مطاردتهم واستهلاك الوقت والمصادر الضرورية وأن هناك عمليات أكثر أهمية.

احدى العمليات المهمة التي نفذها الموساد هي إقامة ورعاية «تحالف المحيط» ـ التعاون الاستخباري مع إيران، تركيا واثيوبيا، حيث تم توسيعه مع مرور الوقت ليشمل مجالات اخرى، وقد سُميت العملية «خليل». التحالف كان عاملا مهما في النظرية الامنية الإسرائيلية وخدم السياسة الخارجية، وأثمر المعلومات الاستخبارية، لكن الاهمية الاساسية كانت سياسية، حيث ساعدت على تحطيم العزلة التي حاولت الدول العربية فرضها على إسرائيل.

التحالف بدأ ينهار مع اندلاع الثورة الإسلامية في إيران في 1979، والشريكة الاخرى، تركيا، انفصلت بعد ذلك بثلاثين سنة. العلاقات السرية التي انشأها الموساد مع عدد من الدول العربية، منها المغرب والاردن. ودول إسلامية غير عربية مثل اندونيسيا، ساهمت في ايجاد الظروف الملائمة للسلام بين إسرائيل ومصر والسلام مع الاردن.

رؤساء الحكومات، من بن غوريون حتى الآن، حصلوا على تقارير مفصلة حول نشاط الموساد في هذه الدول. وفي مجال الحرب السرية برزت ايضا العلاقة التي انشأها الموساد مع البشمارغا، وهي قوة الاقلية الكردية التي تحارب في العراق، ومنظمة المتمردين في جنوب السودان. وقد حصلت كردستان العراقية على الحكم الذاتي، والآن هي قريبة من الاستقلال السياسي. وجنوب السودان الذي تحول إلى دولة سيادية في 2011 تقيم علاقات مع إسرائيل.

إن علاقة الموساد مع الاقلية المسيحية في لبنان لم تنجح، بل ورطت إسرائيل أكثر. كانت هناك محاولات كثيرة على مدى السنين لتطوير علاقات حقيقية مع الدروز في لبنان وسوريا، ولم تنجح. والمساعدة العسكرية الجوية للملكيين في اليمن في الستينيات لم تترك بصمتها.

حقائق أم تقديرات

جمع المعلومات واحباط التهديد الإرهابي والسلاح غير التقليدي وتطوير العلاقات السرية مع دول لا توجد لها علاقة سياسية مع إسرائيل، كل ذلك بقي حتى الآن في جوهر عمل الموساد. وبناءً عليها يتم اختباره. في هذه المجالات هو يخدم القادة، واحيانا، كما يقول دان مريدور، منسق اعمال الحكومة ووزير الاستخبارات، تكون هناك فجوة بين ما يمكن أن تقدمه الاستخبارات وبين حاجات الزعيم.

مجال آخر من الجدير تقييم أداء رجال الموساد بناءً عليه هو دورهم في بلورة التقديرات الوطنية وعملية اتخاذ القرارات في الشؤون الاستراتيجية السياسية. وتعامل الزعماء مع التقديرات الاستخبارية في الموضوع السياسي مختلف تماما، حيث أنهم يعتقدون أنه يمكنهم فعل ذلك لوحدهم.

في أحد اللقاءات التي تمت في هيئة الاركان العامة في 1963 وقبل الاستقالة الثانية لرئيس الحكومة دافيد بن غوريون بقليل، استعرض الجنرال مئير عميت، رئيس الاستخبارات العسكرية والذي كان في حينه رئيس الموساد، استعرض التقديرات الامنية في الشرق الاوسط واشار إلى التوجهات الآخذة في التبلور. ورئيس الحكومة أشار إلى أنه لا يريد الحصول على التقديرات الاستخبارية. «عليك احضار الحقائق»، قال له، «رجال الاستخبارات يمكنهم معرفة ما حدث في الماضي وليس ما سيحدث في المستقبل».

اغلبية رؤساء الحكومة الذين جاءوا بعده تبنوا الموقف الذي يقلل من شأن تقديرات الاستخبارات في المجال السياسي الاستراتيجي، وبعضهم تحدث بشكل فظ، وكان رابين وبيرس هما الاكثر بروزا. لم يعتقدوا أنهما بحاجة إلى تقديرات الاجهزة الامنية في الموضوع السياسي، والحاجة إلى التوصيات حول الطريقة التي يجب عليهما العمل بحسبها.

رابين لم يعط أي اهمية للتقديرات السياسية التي حصل عليها من الاستخبارات العسكرية والموساد. والجنرال داني يتوم، مساعده العسكري، قال «الاستخبارات العسكرية حظيت بلقب «المُقدِّر القومي»، وهذا غير صحيح. رابين مثل رؤساء الحكومات الذي جاءوا في أعقابه، اعتبر أن الاستخبارات العسكرية هي الجهة المسؤولة عن الانذار بالحرب». بيرس، الاكثر انتقادا للموساد، قال بتشكك إن الاستخبارات تخطي دائما، وأشار إلى الاحداث التاريخية التي فاجأتها مثل بيرل هاربر، عملية بارباروسا وحرب يوم الغفران. رئيس الحكومة اهود باراك كان على يقين أنه يفهم الواقع افضل من الاستخبارات. ويُقال إن باراك كان يسجل لنفسه الاستنتاجات قبل انتهاء النقاش، بل قبل أن يبدأ.

يقول فايسغلاس إن اريئيل شارون أراد الحصول على معلومات صعبة، والتقديرات الاستخبارية، رغم أنه استمع اليها، لم تكن تعنيه. والترجمة الفعلية لهذا الموقف هي أن السياسيين ليسوا بحاجة إلى التقديرات الاستخبارية في المجالات السياسية الاستراتيجية.

مستقبلنا، إلى أين

الزعماء يتعاملون مع تقديرات الاستخبارات بتشكك. وفي أفضل الحالات يعتبرونها أحادية الجانب، وليس بالضرورة أن تكون الاهم في الصورة الاوسع للمعلومات والمواقف التي يستخرجون منها سياستهم.

رئيس الحكومة شمير كان «جندي الفكرة»، كما قال مريدور الذي عمل معه. وبدون أن يطلب استشارة الاستخبارات، أمر شمير في 1991 بافشال «مؤتمر مدريد» الذي سعى من اجل الحل الإسرائيلي العربي. وقد تم فرض المؤتمر من ادارة بوش الأب. لم يكن بالامكان اقناعه بأمر من شأنه التسبب بالضرر لموقف ارض إسرائيل الكاملة الذي آمن به.

رئيس الحكومة اسحق رابين عندما قرر الذهاب إلى «مسار اوسلو» بقي متمسكا بموقفه، رغم أن التقديرات الاستخبارية كانت تشير إلى أن مصيره الفشل. وباراك لم يطلب استشارة الاستخبارات عندما قرر الانسحاب من المنطقة الامنية في لبنان. وقد اتخذ هذا القرار قبل انتخابه لرئاسة الحكومة. شارون ايضا لم يطلب تقديرات الاستخبارات عندما فكر في الانفصال، ورفض استشارة رجلي الموساد هليفي ودغان اللذان أوصياه بدراسة الاقتراح السعودي لحل الصراع.

مريدور يعترف بأهمية التقديرات الاستخبارية لكنه يقول إن الزعماء لا يتبنوها. «إنهم يتبنون التقديرات الاستخبارية عندما تلائم قناعتهم»، ويتجاهلونها عندما تكون مناقضة لها أو إذا كان من شأنها الحاق الضرر بمصالحهم السياسية. داني يتوم لا يتذكر خلال السنوات التسعة التي عمل فيها مع رؤساء حكومة ووزراء دفاع، أن أحدا منهم قد غير موقفه في الامور الاستراتيجية السياسية بسبب التقديرات الاستخبارية.

محللون كثيرون في الاستخبارات يعتقدون أنه يمكن التنبؤ بالمستقبل بناءً على معلومات آنية وتحليل أحداث الماضي. تكرار التقديرات الخاطئة للاجهزة الامنية في إسرائيل ودول اخرى لا تؤكد هذه النظرية. الحياة السياسية والاقتصادية، وفي احيان كثيرة نتائج العمليات العسكرية، تتأثر بأحداث صدفية لا يمكن التنبؤ بها. والسيناريوهات المتوقعة للمستقبل كثيرة جدا.

البروفيسور دانييل كهنمان، الحائز على جائزة نوبل بفضل بحث له في هذا الموضوع، تطرق إلى القدرة الانسانية المحدودة على توقع المستقبل. الناس لا يعطون الاهمية المطلوبة لحقيقة أن الصدفة هي عنصر مهم في الاحداث التي تحدث في العالم. اخطاء التنبؤ هي شيء لا يمكن منعه لأن العالم غير قابل للتنبؤ. هذه الحكمة التي كانت صحيحة في السابق ايضا، وجدت تأكيدها في القرن الحالي، حيث تحدث تغيرات سياسية سريعة وغير متوقعة، وتغير الواقع بلحظة. كهنمان ليس الوحيد، فكثير من العلماء والفلاسفة يعتقدون مثله. وهكذا ايضا نسيم طالب، الذي طور نظرية «البربرة السوداء»، حيث يدعي أن اغلبية الاحداث التاريخية كانت صدفية، لذلك لا يمكن من خلالها استنتاج ما سيحدث.

اذا كانت الامور على هذا النحو، فما الذي يميز رجل الاستخبارات عن المحلل الإعلامي، أو الباحث الاكاديمي أو السياسي؟.

ستستمر قرارات رؤساء الحكومة في الاستناد إلى مجموعة من الاعتبارات، منها الايديولوجيا السياسية التي ليست من اختصاص الاستخبارات، والاعتماد على الغريزة التي أثبتت في حالات كثيرة، أنها أكثر دقة من التقديرات الاستخبارية. ورغم ما قيل هنا فان قيمة وضرورة التقديرات الاستخبارية للزعيم مهمة جدا، ومن المهم أن توضع على طاولته قبل اتخاذ القرار، بشرط وجود ما كتبه جوزيف نييه، أحد رجال الاستخبارات البارزين، «الاستخبارات لا تسستطيع التنبؤ بالمستقبل لكنها تساعد متخذي القرارات في التفكير حول المستقبل».

معاريف

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى