إنه التحدي يا شباب !
فاطمة طفيلي
شكلت بداية الحراك الشبابي بارقة أمل للبنانيين المثقلين بهموم ومشاكل لا حصر لها جعلت حياة الفرد اشبه بمعركة دائمة لا تعرف لها حدودا او برا للخلاص، ومع ذلك لم تكن الشكوى تتخطى حدود التذمر والسخط والتعبير عن التعب البالغ حد اليأس، وهم يرون المسؤولين يتنافسون على توصيف ما آلت اليه الاوضاع، قلقين على المستقبل، محذرين في كثير من الاحيان ومتوعدين في الاغلب من اننا هالكون جميعا إن لم نسارع الى إنقاذ بلدنا والاجتماع لمواجهة التحديات المصيرية التي تعصف بنا في خضم ما يجري من حولنا، وبعدما ذاقوا مرارة الخيبات المتكررة في الكثير من محطات الحراك النقابي والمطلبي التي راهنوا عليها مرارا ولم يحصدوا سوى الخيبة والخذلان وتراكم المطالب المؤجلة والحقوق المسلوبة قهرا وعنوة.
لطالما فاخر اللبنانيون ببراعتهم في تخطي الازمات والمشاكل وهم اصحاب مقولة “اللبناني شاطر كيف ما كبيتوا بيجي واقف”. فأين اصبحنا اليوم من هذه الشطارة، ونحن نترحم على ما فات، حتى في زمن الحرب أيام كانت الحياة تعود الى طبيعتها بمجرد الاعلان عن وقف لإطلاق النار، لتصبح “الطرقات سالكة وآمنة”، ولا هم سوى القلق من خطر معاودة التقاتل والاحتراب. لم يكن يخطر على البال ان حربا من نوع آخر ستنشب وتستمر، ولم يرد في اي من توقعات العارفين أو المحللين ولا حتى في دفاتر المنجمين ان نهاية اللبنانيين ستكون في نفاياتهم غارقين، وهم الذين تمكنوا من قهر اعتى الاعداء وردهم منكسرين مهزومين…
أكوام النفايات القابعة في أرجاء الوطن هي انتهاك لكرامتنا وانسانيتنا قبل ان تكون خطرا على بيئتنا وصحتنا، وروح الثورة والتمرد التي اعتملت طويلا في النفوس آن لها ان تنطلق وقد تساوت فيها المناطق واصبح الكل في الهم واحد. ومن هنا كان الرهان على الحراك الشبابي الذي انطلق احتجاجا على ازمة اغرقت البلاد بجبال نفايات خنقت روائحها العباد، ورأوا فيه احلاما راودتهم لسنوات خلت بالتمرد على واقع مزر يزداد سوءا، طلبا لحقوق ارهقهم انتظارها، حتى قاربوا حدود اليأس وانعدام الامل بتحقيقها، فاذا به يومض من جديد…
رغم ما رافق الحراك من تشكيك ما زال مستمرا الى الآن، وبعضه واقعي، لبى المئات الدعوة وتظاهروا، لكن قسما كبيرا منهم شعر بالخيبة وانكفأ مكتفيا بالمراقبة وانتظار النتائج، بعد كم من الاخطاء والثغرات اضعفت ثقته، فتراجع الزخم وانحسرت المشاركة.
بدا ان من قادوا التحرك الشبابي لم يكونوا مستعدين كفاية، وربما هم فوجئوا بحجم المشاركين، فذهبوا سريعا الى توصيفات اضطروا الى نقضها في اليوم التالي والتراجع عنها، ومنها توصيف المندسين لمجموعة من الفتية عبَروا عن وجعهم على طريقتهم، فكان ما أسموه بأعمال الشغب التي جهدوا في تبريرها بعدما تنصلوا من أصحابها وكالوا لهم الاتهامات بحجة أنهم من منطقة تدين بالولاء لأحد المسؤولين، ساندتهم بذلك وسائل إعلام وإعلاميون اضطروا للاعتذار لاحقا، وكأن للتعبير عن القهر مواصفات وقواعد لا يليق بالمتظاهرين تخطيها. أمر اثار موجة واسعة من النقد والنكات حفلت بها مواقع التواصل الاجتماعي تحت عناوين “الاتيكيت” و “البريستيج” و “الكلاس” وغيرها من التوصيفات الطبقية المتعالية على هموم الناس وأوجاعهم، فكيف للمكتوي بالنار أن يكتم صرخات الالم؟!!.
اما عن المطالب وغياب التنسيق والخلافات في الآراء فحدث ولا حرج، والتبرير ان الشباب تنقصهم الخبرة ويحتاجون الى مزيد من الوقت. خلافات ظهرت للعلن، وبلغت حد إعلان العزوف عن المشاركة او تشكيل مجموعات مستقلة بعناوين مختلفة، ورغم ذلك أكد الشباب أنهم موحدون ولا يضيرهم تعدد الأسماء والتشكيلات، المهم “الا يكون بيننا سياسيون أو حزبيون”. ليتم التعديل فيما بعد “نرحب بالجميع إن رفعوا العلم اللبناني” كي لا يُستثمر التحرك لصالح حزب أو مسؤول.
تظاهرة يوم الاربعاء التاسع من ايلول تحولت الى استعراض فولكلوري أين منه المهرجانات السياسية الحزبية، وبدا الخطباء أشبه بمشاريع زعماء ينتظرون تصفيق الجمهور لهم ليتحمسوا وتتحسن لهجتهم الخطابية”، وعلى هذه الجماهير أن تسمع وتطرب “حلوين… خليكن هيك”. ولا يشفع لهم تسميتهم بالمواطنين المنتمين الى كل المناطق، طالما أنهم مجرد مستمعين او شهود لا رأي لهم، وبينهم من أخرجته القلة وضيق الحال ولا يدري ماذا يفعل، فيما يحتاج المتظاهر المقبول من جميعكم الى سجل عدلي وبراءة ذمة وشهادة صحية تثبت أنه لم يصب بعدوى السياسة والحزب أو اي انتماء مشبوه آخر، وعليه ان يكون مرتبا ومهذبا وإن أمكن باللباس الرسمي، فبالله عليكم من أين ستأتون بالمواطنين الابرياء من تهم متأصلة منذ سنوات؟!.
التغيير فعل تراكمي لا مجال فيه للسحر والأعاجيب، والثورات الناجحة هي التي تستند الى وعي الجماهير ونضوجها، مدعوما باندفاعة الشباب وحماسه، فماذا فعلتم على هذا الصعيد؟!.
مشكلتنا أننا شعوب لا تقرأ ولا تسمع، وإن فعلت تتقوقع ولا تحاور، تبقىبل معزولة غير قادرة على الإفادة من تجاربها وخيباتها المتكررة.
متى يناقش الشباب الطامح للتغيير خطط تزخيم الحراك والضغط لتحقيق المطالب، وقد شغلته المناظرات التلفزيونية وأغرته النجومية والشهرة، والى أين سيصل، ولكل رأي وخطة، والجميع متمترس خلف أفكاره رافضا الرأي الآخر، والضجيج الذي يملأ المنابر خير مثال والعاقبة لمن يستطيع أن يخرج بخلاصة مفيدة. فمن يحدد الأولويات، ومن هم أطراف الحوار، والسؤال الاهم هل انتم ثوار أم نجوم تملأ صورهم الفضاءات والساحات؟!.
… انتخاب رئيس للجمهورية، قانون انتخابات نيابية يعتمد النسبية خارج القيد الطائفي، استقالة وزيري الداخلية والبيئة، محاسبة الفاسدين، زيادة الرواتب، تأمين الكهرباء والمياه والطبابة والتعليم والوظيفة وحل أزمة النفايات… طلعت ريحكتم، طفح الكيل، بدنا نحاسب ،قرفتونا، حلّوا عنا، كلكم يعني كلكم… وماذا بعد؟. يختلط الحابل بالنابل وتزدحم اللوائح، فمن يرسسم الزيح ويُحدد نقطة البداية، وكيف لمئات العناوين المتراكمة ان تُحل دفعة واحدة.؟!.
تطالبون بحل أزمة النفايات ولا تناقشون خطة الحل، تريدون مراقبة المسؤولين وفي متابعة الخطة وفرض تطبيقها بالطريقة المناسبة ومحاسبة المقصّرين والمتنفّعين فرصة البداية، فلماذا تحجمون ولا تقارعون الحجة بالحجة؟. وهل تكفي استعراضات الاتهام وكيل الشتائم امام الكاميرات لتحقيق المراد؟!.
غادروا عوالم الافتراض وعودوا الى أرض الواقع، وحدِّوا جهودكم ولا تبددوا طاقات الشباب المتحمس بشعارات مستحيلة، وليكن التمرد والعصيان آخر الأوراق، وعندها ستكتسبون مجددا ثقة الجماهير “الغفورة” وتأييدها، وتتحولون معا الى قوة فعلية للتغيير، وإلا فستقبى ثورتكم أسيرة عوالم الافتراض، وساحاتكم مجرد مزارات يرتادها المشاركون لتسجيل اللقطات التذكارية سعيا لمزيد من الـ”لايكات” والإعجاب على صفحات الفيسبوك، وفي المحصلة تكرار لمعزوفة الأسف على من سقط من الضحايا وفي مقدمهم الشعب المسكين…