بقلم ناصر قنديل

البدء من لحظة التعادل دولياً وإقليمياً ولبنانياً

nasser

ناصر قنديل

– الانعطاف نحو السياسة من الرهانات على الميدان أو ساحات المواجهة، لا يصنعه عادة في علوم الحرب والسياسة، إلا بلوغ الخطوات المتقابلة في الميدان، سواء كان عسكرياً أو سياسياً أو شعبياً، نقطة لا يملك فيها أيّ فريق هوامش مناورة، وتصير النقلة التالية الوحيدة المتاحة لكلّ من الفريقين هي تلك التي تذهب إلى المواجهة المفتوحة المباشرة وتعلن وقف الحرب الباردة أو الحرب بالوكالة أو الحرب غير المباشرة، والانتقال من تسجيل النقاط الذي يغدو مستحيلاً إلى ما يسمّيه الخبراء «ليّ الذراع فكسر العظم»، وعندما يكون اللجوء لتسجيل النقاط والحروب البادرة وغير المباشرة ناتجاً من السعي إلى تفادي المواجهة المباشرة والحارة، يصير الطريق الإلزامي الوحيد هو أن تبدأ السياسة.

– دولياً سارت الأمور بسرعة تحت تأثير الحضور العسكري الروسي في سورية، تحت عنوان واضح هو منهجية جديدة للحرب على الإرهاب تترجم ما سبق وكرّرته روسيا مراراً ويقوم على رفض استخدام مفهوم مكافحة الإرهاب لانتهاك سيادة الدول، والتأكيد على الحاجة إلى حلف دولي إقليمي يضمّ سورية والعراق ومصر والسعودية وتركيا وإيران وروسيا وأميركا، وهو المفهوم الذي شكل أساس حركة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نحو كلّ من السعودية ومصر، وما تبعها من إعلان موسكو بلسان بوتين نفسه أنّ روسيا تأخرت كثيراً عما تراه واجبها بالمشاركة المباشرة في الحرب على الإرهاب أملاً بالتوصل إلى صيغة تحت مظلة الأمم المتحدة تجمع كلّ المعنيين والراغبين، وأنها مطالبة بعدم الاكتفاء بموقفها المبدئي وترجمته بدعم الذين يحاربون الإرهاب وفقاً للمبادئ التي تؤمن بها موسكو، للانتقال إلى شراكة فعلية في هذه الحرب، ومن هذه النقطة تتالت الوقائع والأحداث، لترسيخ حقيقة نقلة نوعية روسية في الحضور العسكري في سورية، لا يمكن أن يكون معزولاً عن قراءة موسكو لكامل توازنات الحرب على سورية والحلّ السياسي فيها ومندرجاته وتعقيداته، أثار الحراك الروسي حركة أميركية اعتراضية حادّة وردوداً روسية وردوداً على الردود، حتى بلغنا ذروة التصعيد ووصلنا إلى نقطة التعادل، وانتهى الأمر بالطلب الأميركي بالدعوة إلى جهد جماعي في مواجهة الإرهاب، وهذا هو المطلب الروسي الأصلي، وجوهره يبدأ بالدعوة إلى التعاون مع الدولة السورية وجيشها ورئيسها، لتبدأ السياسة من هنا.

– في مسار مواز تطوّرت بسرعة لافتة أيضاً قضية المهاجرين السوريين والمواكبة الإعلامية اللافتة لها، والبعد الدرامي للجانب الإنساني منها، والتجاوب الأوروبي بفتح الأبواب أمام المهاجرين، وصولاً إلى طرح جذر القضية، كيف تستعيد سورية استقرارها فيعود أبناؤها إليها، وتتبدّد المخاوف من فوبيا التغيير الديمغرافي، وتفشي الإرهاب، والضغوط الاقتصادية والاجتماعية، وثمة طريقان لا ثالث لهما في معادلة اليوم، إما قرار حرب لاحتلال سورية وإسقاط دولتها وجيشها ورئيسها، انطلاقاً من المواقف العدائية التي يتمسك بها قادة الغرب، ودون ذلك العجز عن خوض حرب جرّب الغرب خوضها تحت عنوان الملف الكيماوي السوري وجلب لأجلها أساطيله وتراجع، وهي حرب لا تملك جواباً عن كيفية تفادي تكرار التجربة العراقية لجهة الفرص التي ستمنحها لتجذّر الإرهاب، في مقابل التهرّب الجامع لدول الغرب وحلفائها من أيّ قتال بري، مقابل التسليم بأنّ الحرب البرية هي الأساس، ناهيك عن خطر الانفجار الكبير في حال الحرب الذي سيصيب التفاهم النووي مع إيران وسيصيب أمن «إسرائيل»، والبديل الوحيد المتاح هو، أن تبدأ السياسة من نقطة التعادل، وبوابتها التخلي عن اللغة الخشبية حول رفض التعاون مع الدولة السورية وجيشها ورئيسها، فيفتتح الكلام وزير خارجية إسبانيا ويليه زميله النمساوي، ويصل الدور إلى وزير خارجية بريطانيا كبداية تحوّل أطلسي، والعنوان «نتعاون مع الأسد».

– إقليمياً حيث تحتلّ العلاقة السعودية الإيرانية، المكانة المحورية في صناعة المشهد، وحيث يشكل اليمن ساحة تسجيل النقاط المتبادلة، تعطلت السياسة لأنّ الحساب السعودي بالقدرة على تحقيق النقاط انطلق من قراءة وجود جغرافيا يمنية مفتوحة أمام قوات الخليج وصولاً إلى صنعاء، تتلى بعدها دعوات الاستسلام على حلفاء إيران، وتسارعت التطورات التي قالت إنّ الجغرافيا مزروعة بالأشواك التي تدمي، وتساقط العشرات من جنود جيوش الخليج، وتبلورت ملامح ما سيكون عليه الوضع لشهور مقبلة من دون وجود أفق لتغيير المسار، فإما تورّط عسكري كبير وشامل غير مضمون العواقب أو أن تبدأ السياسة، وقبل أن تتواتر الأنباء التركية السيئة عن بدء الخروج من المسرح الإقليمي بعد الانتخابات المقبلة خلال أقلّ من شهرين، وفقاً لنصيحة الرئيس باراك أوباما للملك سلمان بن عبد العزيز، وللسياسة عنوان واحد هو مسقط وليس الدوحة ولو استرضت قطر السعودية بعدما أرسلت ألف جندي للقتال في اليمن.

– لبنانياً وعلى مساري، التنافس بين الخيارات الرئاسية، والتنافس بين طاولة الحوار وساحة الحراك في المقابل، بدأت الرهانات ذات السقوف العالية بالانخفاض، فعلى المستوى الرئاسي، شكل الحوار وارتضاؤه، إعلان تسليم باستحالة الانفراد والرهان على موازين القوى لفرض الخيارات، فلا ترشيح العماد ميشال عون أو مكانته المحورية في صناعة الرئيس العتيد تصنعهما تلقائياً انتصارات حزب الله في ميادين الحرب والمتغيّرات الإقليمية لمرحلة ما بعد التفاهم النووي، من دون التواصل مع الفريق الآخر، ولا الرهان على اختراق جدار حلفاء العماد عون لعزله وإدارة الظهر له بدا ذا جدوى، وصار الحوار ترجمة لتسليم متبادل بمحورية دور العماد عون مقابل محورية رضا تيار المستقبل ومحورية وساطة الرئيس نبيه بري. وعلى المقلب الآخر، ظهر الحوار على رغم مساره المستقلّ النابع من الاستعصاء السياسي أنه استجابة لضغط الغضب الشعبي وخشية من انفجار يقوده مجهول إلى حيث يدخل البلد في الفوضى، ويدخل لاعبون من خارج نطاق السيطرة، بينما بدا تراجع نسبة الحماسة الشعبية بحجم الحشود الذي بلغ تقريباً نصف المشتركين في تظاهرة السبت الأخير من شهر آب الماضي، وبدا الانقسام على الناشطين في قراءة الأهداف والتكتيكات، كما شعورهم بلا جدوى سياسة الصدام المفتعل وتسبّبها بانفكاك الناس عن الحراك، فوقع التعادل الرئاسي ومعه التعادل بين الحوار والحراك، لتبدأ من هنا السياسة.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى