تركيا عرّابة الاتجار بالسوريين فراس الهكار
لا يمكن إنكار الدور التركي أو تجاهله في الأزمة السورية؛ فالدور الذي كان مشبوهاً في بداية الأزمة، اتضح بالأدلة الدامغة أنه دور محوري بدأ بالتآمر على البلاد وسرقة مقدراتها وتخريب بنيتها الصناعية وإتلاف دورها التجاري، ولم ينته عند التجارة بالبشر والأعضاء
أزمير | يبتكر الأتراك بين الفينة والأخرى أساليب جديدة للاستثمار في الأزمة السورية بما يعود عليهم بالنفع؛ فبعد فضيحة الشهادات الجامعية وجوازات السفر المزورة، تجد اليوم على شبكات التواصل الاجتماعي صفحات تروج لتهريب البشر من تركيا كنقطة تجمع وارتكاز في مدينة أزمير الساحلية إلى سواحل الجزر اليونانية، ثم منها إلى دول غرب أوروبا. هذه الصفحات الافتراضية تصبح أكثر واقعية بمجرد وصولك مدينة أزمير.
باتت ساحة بصمانيه نقطة علام للسوريين في الدرجة الأولى، ثم العراقيين والفلسطينيين واللبنانيين، وأخيراً الأفارقة. لن تضيع في تلك الساحة حيث ينتشر السوريون على الأرصفة وفي الحدائق. الساحة التي تشبه إلى حدّ كبير ساحة المرجة في دمشق، أصبحت مستقراً مؤقتاً لكل العرب. ورغم أنها تعج بالفنادق والأوتيلات، ستكون محظوظاً إن تمكنت من إيجاد غرفة شاغرة، والاحتمال الأكبر هو النوم في إحدى الحدائق نتيجة الازدحام الشديد.
يقول ياسر، شاب من مدينة الحسكة ترك دراسته في كلية الهندسة البتروكيمائية بسبب ظروف الحرب وبدأ يعمل بالحلاقة، ونتيجة اليأس قرر الهجرة، «لم يبق لنا أمل أن تتحسن الظروف، بل على العكس، هي من سيّئ إلى أسوأ. قطعت مسافة طويلة جداً، رحلة استمرت أياماً وكانت محفوفة بالمخاطر. مررت بمناطق سيطرة تنظيم داعش في الرقة ثم إلى حلب حيث مناطق سيطرة جبهة النصرة، وأخيراً على الحدود السورية في إدلب حيث يسيطر مسلحو الجيش الحر. كان لزاماً علينا الدخول عبر منافذ التهريب إلى تركيا.
عمولة الوسيط بين المهرب التركي والمهاجرين تتراوح بين ٥٠ و١٠٠ دولار أميركي عن كل «نفر»
كنا حوالى مئة وخمسين شخصاً، لم ينجح منا سوى تسعة وعشرين في دخول الأراضي التركية». ويضيف ياسر «مات عجوز مريض بالقلب أثناء الركض لعبور الساتر الترابي، وهناك أهال أضاعوا أطفالهم فحملتهم عوائل أخرى وعادت بهم إلى سوريا، بينما أصبح أهاليهم في تركيا. هي مأساة بكل ما تعني الكلمة. وأحاول مبدئياً الاتفاق مع مهرّب بينما تصلني المصاري بحوالة من أهلي، لأني لم أحمل معي شيئاً خوفاً من الطريق».
معظم قاصدي تركيا بغرض الهجرة يكونون قد اتفقوا مسبقاً مع سماسرة عبر موقع «فايسبوك» أو «الوتس آب» قبل توجههم إلى مدينة أزمير. بمجرد وصولهم يلتقون الشخص الوسيط، وهو دائماً سوري الجنسية كي يستطيع التفاهم لغوياً مع مواطنيه ويشعرهم وجوده بالطمأنينة إلى حدّ ما، لأن ما يحدث من عمليات نصب واحتيال يُرعب المسافرين.
يروي سامر، وهو شاب من مدينة منبج في ريف حلب يعمل سمساراً لأحد المهربين الأتراك: «نحاول قدر الإمكان مساعدة الناس في الوصول إلى أوروبا. دورنا يمثل وسيطاً بين المهرب التركي والمهاجرين غير الشرعيين. تتراوح عمولتنا بين ٥٠ و١٠٠ دولار أميركي عن كل نفر».
وجد سامر في موسم التهريب فرصة عمل جيدة نتيجة الازدحام الشديد، وهو لا يفارق ساحة «بصمانيه» إلا بعد أن يحصل على بعض الزبائن. لدى سؤاله لماذا لا يهاجر هو؟ يقول: «إني متعلق بسوريا إلى درجة كبيرة، لذلك أفضّل العودة إليها وعدم السفر إلى أوروبا».
توضع كلفة التهريب عند طرف ثالث، وهو على الأغلب مكتب أمانات يأخذ عمولة ٥٠ دولاراً بدل إيداع، ولا يسلم النقود للمهرب إلا بعد اتصال صاحب النقود من اليونان، ويمكن اعتماد شخص ثالث يكون وسيطاً مقرّباً من المهاجرين يحمل النقود ويجلس مع المهرّب إلى أن يصل أقاربه، فيسلمه المبلغ المتفق عليه.
عالم النفرات
ينتشر سماسرة تهريب البشر في زواريب ساحة «بصمانيه». تعج المقاهي بهم. الجلوس بالقرب منهم يتيح لك سماع ما يدور من تفاوض ومحاولات إقناع للمهاجرين وتحفيزهم على الهجرة. بعد لحظات يصبح في وسعك الانضمام إلى الحديث من دون استئذان.
ناصيف، وهو سمسار تهريب للـ«نفرات» ــ مصطلح يطلقه المهربون على الفرد المهاجر ــ يحاول إقناع زبائنه بالهجرة عن طريقه، فهو حسب ما يدّعي مضمون ويوصل «نفراته» إلى جزيرة كيوس اليونانية. هذا نوع من الإغراء لسهولة الإجراءات في تلك الجزيرة اليونانية. يؤكد السمسار أن مدة الرحلة لا تتجاوز خمسين دقيقة بالـ«بالم»، وهو قارب مطاطي يستخدم في تهريب البشر. ويسهب في شرح مواصفات «البالم» المستخدم، محاولاً إقناع المهاجرين.
يستخدم المهربون «بلمات» مطاطية لتهريب البشر في عرض البحر وقطع مسافة ٨ كلم من الشواطئ التركية إلى أقرب الجزر اليونانية، «البلم» الصغير طوله حوالى أربعة أمتار ويتّسع لثمانية أشخاص، والكبير طوله حوالى تسعة أمتار ويتسع لأربعين شخصاً، وهناك رحلات باليخت أو بالأحرى هو قارب صيد خشبي بسعر ٢٥٠٠ يورو للراكب. ويفضّل المهاجرون «البلم» لأن أجرته لا تتجاوز ١٣٠٠ دولار.
يقول أبو أحمد، وهو أحد مسلحي «الجيش الحر» في ريف محافظة دير الزور قبل أن يقضي عليهم تنظيم «داعش»: «بعد أن فشلت ثورتنا في تحقيق أهدافها تشرّدنا، وأصبحنا مطاردين، فهربنا إلى تركيا وقررنا العودة إلى حياتنا الطبيعية. وجدنا في مساعدة الناس في الوصول إلى اليونان رزقة جيدة، وبدأت العمل مع مهرّب تركي له علاقاته الواسعة مع الجندرما التركية. نأخذ عمولتنا على كل نفر، إضافة إلى أتعابنا في تجهيز البالم وتأمين المسافرين إلى نقطة العبور المتفق عليها».
يجري التفاوض والاتفاق في وضح النهار. لا أحد يعمل في الساحة باسمه الحقيقي. معظم الأسماء حركية. عند الساعة السادسة من مساء كل يوم تبدو الساحة كخلية نحل؛ حركة في جميع الاتجاهات، عائلات وأفراد كل نفر يحمل سترته ودولابه مغادراً الساحة إلى مكان قريب متفق عليه مع السمسار حيث يتم اللقاء بالمهرب التركي، ثم تأتي سيارات لنقل «النفرات» إلى نقطة الانطلاق التي يعتمدها المهرب لتسيير رحلاته بالاتفاق المسبق مع الجندرما التركية.
تبعد نقطة الانطلاق التي يعتمدها المهرب أبو إبراهيم حوالى ٨٥ كلم عن مدينة أزمير. ينقل نفراته بسيارات أجرة تباعاً. يجب أن يكونوا هناك قبل حلول الظلام، ثم ينتظرون اللحظة المناسبة للانطلاق، وهي تكون ما بين منتصف الليل وأذان الفجر، وأحياناً رحلات نهارية قبيل الغروب.
يقول أبو إبراهيم: «أسّست لسمعة جيدة في هذا المجال، لذلك أحاول دائماً تأمين زبائني وضمان وصولهم. حتى في حال فشلت محاولة العبور، فإننا نعيدهم إلى مدينة أزمير على نفقتنا ونضمن عدم سجن أي شخص منهم. صحيح عم آخذ سعر زيادة عن السوق ٥٠ دولاراً ع النفر، لكني أضمن وصوله بأقل وقت ممكن. كل يوم عندي بين ثلاث إلى خمس رحلات يومياً، ولا أضع في البالم حمولة تزيد على طاقته. يستحيل أن يتجاوز العدد أربعين نفراً في الرحلة الواحدة».
يقف أبو إبراهيم على تلة عالية قرب منطقة الششمة يتابع حركة خفر السواحل اليوناني (الكومندس) الذي يجول في البحر. هنا ترتفع الدعوات والتضرّع إلى الله أن يحمي مسافريه ويوصلهم سالمين. يبقى ينتظر أول رسالة منهم تؤكد وصولهم، حتى يبدأ بتسلّم نقوده من الطرف الثالث الذي يكون معه ينتظر. أطلق في هذه الليلة ستة بلمات فحقق ربحاً وفيراً. وهو يلحّ على سمساره السوري بأن يجد له عروساً، فزوجته مريضة كما يقول ويريد فتاة سورية للزواج.
يقول علاء، وهو شاب سوري لم ينجح في اجتياز البحر ليلة أمس وما زال في مركز الجندرما التركية: «طلعنا ومسكونا الكومندس اليوناني، وشق القارب وأخذ كل البنزين وتركنا بالبحر. ضلينا خمس ساعات حتى إجانا خفر السواحل التركي وأنقذنا. حالياً أنا رايح عالسجن. إنشاالله اليوم المسا يا بكرا أطلع».
يمضي من فشلت محاولته في الوصول إلى اليونان ليلته في السجن، ويكتب تعهداً بأنه لن يحاول مرة أخرى، ويخرج.
السوري دولار
«أهلاً بأصدقائنا العرب»، هذا ما كتبه معظم أصحاب المحال التجارية في أسواق أزمير على واجهات محالهم، رغم أن التاريخ لم يذكر وجود مثل هذه الصداقة، لكن يبدو أن المصالح تفرض نفسها. ليست أزمير أجمل المناطق التركية الساحلية، ولم يسبق لها أن شهدت في تاريخها مثل هذا الازدحام والحركة التجارية التي تعيشها اليوم. تتصدر سترات النجاة واجهات المحال التجارية، وفي أقبية تلك المحال ومستودعاتها أطنان من السترات بأنواعها المختلفة وأسعارها التي تتراوح بين ٦٠ ليرة تركية و١٢٠ ليرة، إضافة إلى إطارات الهواء وجيوب الهواتف المحمولة المضادة للماء. كذلك انتعشت حركة تحويل الأموال والصرافة. فرغم الانتشار الكبير لشركات الصرافة، قد تحتاج إلى ساعات لتصريف أموالك أو تسلّم حوالة، نتيجة الازدحام الشديد. أما في مقاهي أزمير، فلا يمكن أن تجلس مكتفياً بطلب واحد؛ مجرد أن تنهي مشروبك، يجب أن تطلب مرة أخرى أو تغادر. يبرع الأتراك في استثمار كل قرش في جيبك.
يقول جلال، وهو صاحب محل تجاري قريب من ساحة «بصمانيه»: «السوري حرّك السوق، صار في بيع وشراء، وتعددت مصادر الرزق: إشغالات الفنادق وحركة المقاهي والمطاعم ارتفعت بنسبة ٣٠٠٪»، ويضيف «كي أكون واضحاً أكثر، إذا أرادت السلطات التركية أن توقف تهريب البشر إلى أوروبا، فهي تنهي اقتصاد مدينة أصبح يعتمد بشكل أساسي على هذه التجارة؛ فالسوري دولار، وهو من يحرك الأسواق هنا. حتى لو كان ذلك بشكل مؤقت أو موسمي، لكنه يعوض خسائر مواسم الركود، لذلك ترى أن المهاجرين غير الشرعيين ينطلقون في رحلتهم أمام أنظار الجندرما التركية ومن الشوارع المقابلة لمخفر بصمانيه، ولا يتم منع أحد أو توقيفه».
في الوقت ذاته، عادت الأحياء القديمة المهجورة المجاورة لساحة بصمانيه إلى الحياة، وبعد أن كانت خرائب تحولت إلى أوتيلات يلجأ إليها من انقطعت بهم السبل، وبدل إيجارها ٢٥ ليرة تركية لليوم الواحد، لكنها تفتقر إلى مقومات الحياة الأساسية، فهي عبارة عن خرائب بدأ أصحابها باستثمارها مع وجود السوريين.
سوريون كثر باعوا ما بقي من أملاكهم في سوريا وجاؤوا إلى تركيا. مغتربون كانوا في دول الخليج هم اليوم في تركيا يحاولون الوصول إلى أوروبا. شباب وأطفال ونساء. يستحيل أن تكون في هذه المدينة من دون أن تجد قريباً لك أو صديقاً أو جاراً، فرّقتكم سنوات الحرب وجمعتكم رغبة خوض غمار رحلة الموت إلى أوروبا هرباً من حرب لا يعرف أحد متى ستضع أوزارها.
براعة الاحتيال
تختلف أساليب النصب والاحتيال في عالم التهريب الغامض هذا. فخلال يوم واحد تحدث أكثر من عملية نصب واحتيال؛ يتفق بعض المهربين مع عناصر المافيا، ويبلغونهم بنقطة تجمع المسافرين. وبعد نقلهم إلى هناك، وغالباً ما تكون المنطقة مقطوعة ومعزولة نهائياً وخالية من أي بشر، يكون عناصر المافيا بانتظار المهاجرين، فيهدّدونهم بقوة السلاح ويسلبون أموالهم وهواتفهم النقالة ويتركونهم دون أجرة العودة إلى المدينة حتى. لذلك يجب التعامل مع مهرب ثقة يكون سمساره السوري معروفاً للمهاجرين. كذلك هي مكاتب الأمانات؛ فبعد أن ارتفع الطلب عليها، اتفق بعضها مع المافيا لسرقتها ليلاً وإبلاغ المهاجرين أن نقودهم سرقت، لذا لم تعد مصدر ثقة للمهاجرين، باستثناء مكتب أو اثنين يتمتعان بسمعة حسنة.
يقول محمد، وهو رجل من حلب كان قد اتفق مع مهرب للهجرة إلى اليونان: «بعد وصولنا إلى النقطة المتفق عليها، طوّق مسلحون أتراك عائلتي وعائلة عراقية، وسلبونا هواتفنا وما بقي لدينا من أموال وغادروا. مشينا نحو ١٠ كلم حتى وصلنا إلى الطريق العام، ثم أنجدنا بأجرة العودة إلى أزمير شاب سوري كان قد تأخر في الوصول معنا إلى النقطة».
(الأخبار)