لماذا نحن مع العماد عون؟ رلى نصار
لماذا نحن مع العماد عون؟ سؤال كثيراً ما طُرح علينا، وأحياناً نحن طرحناه على أنفسنا، ومع مشهد الحشود التي لبّت بالأمس النداء، عاد السؤال ليُطرح من جديد: لماذا نحن معه؟؟
قصتنا مع العماد عون هي قصة جيل عاش سنوات وسنوات من حياته في حرب قذرة مدّمرة، لم يفهم لماذا قامت، ولا كيف ستنتهي، ولا لماذا عليه أن يدفع فواتيرها، خوفاً وقلقاً وتهجيراً ودماءً ودموعاً.. قصة جيلٍ فُرض عليه العيش في وطن مشلّع، تتقاسمه الميليشيات وزعران الشوارع، ولم يتركوا له من أحلامٍ سوى الفيزا وحقيبة السفر..
قبل 18 أيلول من العام 1988 كان بعضنا يعرفه، أما الجزء الأكبر فلم يعرف سوى أنه قائد الجيش. في ذلك اليوم سمعنا عبر وسائل الإعلام أن أميركا وسوريا اتفقتا على تعيين رئيس لنا.. خبرٌ لو تلقّاه أي شعب آخر لكان اجتاح الطرقات وزلزل الدنيا!! ولكننا لم نفعل شيئاً، ربما لأننا اعتدنا الذل فلم نعد نشعر بنتانته.! ابتلعنا المرارة وغرقنا في الصمت..
ساعات، وصدر بيانٌ عن قيادة الجيش يعلن رفض التعيين؛ بيانٌ كسر حدّة مرارتنا، وكان الدرس الأول: “اللا” يمكن أن تُقال، ويمكن أن تكون قاطعة كحد السيف.. شعوري الخاص لحظتها أن قائد الجيش (ولم أكن أعرف اسمه) يمثّلني.
وصار رئيسَ حكومةٍ انتقالية في أحلك مرحلة من تاريخ لبنان، وتلقّف كرة النار الملتهبة التي تجنّبها الجميع. قام بخطواتٍ جريئة، وخاطَبنا بكلامٍ لم نعتده قبلاً معبّراً عما في داخلنا. تكلم لغتنا، فأصغينا إليه. شعرنا أنه صادق، فوثقنا به. لم نحتج الى وثائق وبراهين لنثق، كان شيئاً أقوى بكثير..
وجاء 14 آذار من العام 1989، اليوم الذي شطر تاريخنا الى تاريخين، ما قبل وما بعد؛
قبله لم يكن لدينا وطن وهوية، كان كل منا ينتمي الى طائفة، الى زاروب.. قبله كان همّنا الحيّ الذي نحن فيه، كان الجنوب بعيداً ولم نكن نعرف أين الشمال، قبله لم نشعر بالحرب الإسرائيلية على لبنان.. مع 14 آذار صرنا شعباً لحمته المعاناة وجمعه الوطن..، قبله كانت الحرب قذرة، وكان كل ما يعنينا منها وقف اطلاق النار، معه صار للحرب معنى وصار مطلبنا الحرية.. قبله كانت كلمات “السيادة الاستقلال الحرية” تثير لدينا السخرية، ربما لنخفي شعوراً مؤلماً بالعجز، معه صارت “السيادة والاستقلال والحرية” شعاراً وهدفاً نعمل ونضحي لتحقيقه.. وكان الدرس الثاني: “العين يمكن أن تقاوم المخرز“..
وتوالت الدروس،
قانون إيمان جديد تعلمناه، يقول: “نؤمن بلبنان واحد، كلّيّ السيادة والاستقلال، لا شريك له في أرضه، ولا وصيّ على قراره.. “
في مؤتمر تونس تعلّم شعبنا كيف يكون الرئيس لبنانياً ولكل لبنان،
ومع الرحلات المكوكية للمفاوضين تعلّمنا أن “استعادة الجمهورية أهم من رئاستها”، وأن “الدور أهم من المنصب“.
أما الدرس الأهم فكان خلال فترة الحرب والاعتصام: “الشجاعة ليست في عدم الخوف بل في التغلّب عليه”، وشيئاً فشيئاً تغلّبنا على خوفنا، فولِد “شعب لبنان العظيم“.
وجاء 13 تشرين بكل ما حمل من ألم.. يومها فهمنا جيداً معنى: “يستطيع العالم أن يسحقني لكنه لن يأخذ توقيعي“.
خلال سنوات المنفى، الكتابات والرسائل الصوتية والمكتوبة والمقالات التي كانت تصلنا من وراء البحار، صارت الكتف التي سندتنا والنور الذي أرشدنا طوال تلك المرحلة المظلمة. كانت صوتاً صارخاً في برية التضليل والتزوير والتشويه ومحو المعالم ومحو ثقافتنا وتاريخنا، صوتاً صارخاً يحاول أن يعبر المسافات ليصل الينا محذراً من الاستسلام، من التعوّد، من التعصّب، من التقوقع، من رفض الآخر، من الإحباط.. ألم يصرخ فينا يوم هبطت عزائمنا مذكّرا إيانا بأننا “أبناء الرجاء، نرقد تحت التراب على رجاء القيامة فكيف نحبط ونحن أحياء؟”
واستمرت مسيرتنا معه، وفي كل محطةٍ منها فخرٌ للبنان ولشعبِ لبنان؛
من محطاتها، يوم أدلى بشهادته في الكونغرس وطالب بانسحاب سوريا من لبنان، ورفض إدراج أي بند يتعلّق بحزب الله فيها، مع يقينه أن بنداً كهذا من شأنه أن يضمن إقرار القانون. وبسبب تلك الشهادة حوله “الأذاريون” الجدد إلى المحكمة..
ويوم دعا الزعماء اللبنانيين والرئيس السوري إلى جلسة حوار، بحثاً عن مخرج مشرّف، يؤمّن انسحاب القوات السورية بهدوء، كي لا نصل إلى ما وصلنا إليه..
يوم دعانا للنزول إلى الشارع بعد اغتيال الرئيس الحريري، فكنا روّاد ساحة الاعتصام..
يوم وقّع وثيقة تفاهمٍ مع حزبٍ يمثّل طائفةً كبيرة من اللبنانيين، ورفض أن يسمح بعزلها..
ويوم أعلن بشجاعة المقاتل أن الحرب مع سوريا انتهت بعد أن أنهت انسحابها من لبنان..
يوم جمع كوادر التيار أول أيام حرب تموز، وقال لهم “افتحوا قلوبكم قبل بيوتكم“..
ويوم أعلن للملأ أن الإنسان سينتصر على الآلة، وأن حرباً مع الخارج لسنوات أفضل من حرب مع الداخل لساعات..
يوم اطلق الحرب على الفساد ومشى طريق الإصلاح الوعر، ويوم سعى لقانون انتخاب عادل يتمثّل فيه جميع اللبنانيين، فلا يسرق واحدنا تمثيل الآخر…
هذا في السياسة، ولكن قطعاً ليست السياسة وحدها هي ما يربطنا به؛
تسأل جندياً لماذا يحبه، فيخبرك عن قائدٍ استثنائي عاش همومهم، واستطاع أن يجعل الوطن همّهم الأول..
تسأل شاباً لماذا يحبه، فيقول لك “يعبِّر عمّا فيَّ، وأثق به“..
تسأل أهلاً لماذا هم معه، فيقولون “أولادنا بأمان بين يديه“…
الشق المضيء في سنوات النفي المظلمة هو أنها سمحت لنا أن نعرفه،
فيها تعرّفنا على الانسان البسيط والعفوي الذي فيه، تعرّفنا على الغضب الصادق الذي يشتعل عندما يكون الغضب مشتعلاً أصلاً في قلوبنا نحن. تعرّفنا على الدمعة التي لا تخجل من السقوط عندما يدور الحديث عن شهيد أو عندما عندما يقرأ رسالة من الوطن..، تعرّفنا على مزارع تربطه علاقة حميمة بالأرض، تعرّفنا على علاقته الصادقة بالناس التي لا تعرف زيفاً ولا تكلفاً، تعرفّنا على وجه الأب الذي كنا نراه في قلقه كلما انطلقنا في تظاهرة أو وزعنا منشوراً..
أحببناه.. نعم، مشينا معه.. نعم، وثقنا به وسلمناه مصيرنا.. نعم؛
سنوات وسنوات عشناها معاً، لم يفصلنا منفى، ولم تبعدنا مسافات، العكس حصل، النفي لَحَمَنا، تشاركْنا سوياً أحلامنا وأوجاعنا، آمالنا وخيباتنا..
مقالاتٌ كثيرة كُتبت خلال تلك السنوات، وحبرٌ كثيفٌ سال، ومالٌ سخيٌّ صُرف، وأقلامٌ عديدة تسخّرت، منهم من حاول أن يفهم أسباب هذه العلاقة وسرّ قوتها، ومنهم من جهد في نعي ما يسمونه “الحالة العونية”، فأنهوها ودفنوها مراراً. غالبية “الكتبة” عمدوا الى حرب معنوية وتشويه سمعة وتحطيم صورة، ليأتي بعدهم من اتخذ دور الواعظ “المنقذ” للعونيين من “حالة اللاوعي” المصابين بها، وهؤلاء أصحاب نظرية “العونية بلا عون“..
ولا يزال هناك الكثير من الأقلام المسخّرة حتى اليوم تفتش عن طامحٍ او متسلّقٍ او محبط لتبثَ سمومها مجدداً.. فهناك من لم يفهم بعد أن البناء مصفح ولا شيء يمكن أن ينخره.
نحن معه أم هو معنا؟؟ هنا السؤال وهنا الإجابة:
في الأزمات الكبرى والحروب، الخيارات المتاحة أمام الشعوب الصغيرة، عادة ليست بكثيرة. والتاريخ خير شاهد: الاستسلام لقدرها أو الهجرة، إلا إذا قيض لها قائد استثنائي يُقدِم، يعطي، يضحي، يفتح لها بالقوة طريقاً ثالثاً نحو الحياة، ولو كان معبّداً بالصخور وبالأشواك.. ونحن قيض لنا هذا القائد، فهل نُسأل بعد لماذا نحن معه؟؟
لسنا نحن معه بل هو معنا،
نعم هو معنا، واستمر معنا في كل المحطات المظلمة والقاسية من مسيرتنا، لم تثنه صعوبات ولم تغرِه عروضات.. لم يوقفه تجريج ولا افتراء ولا ظلم، لم يتعب ولم يكلّ ولم يملّ حتى منّا ومن كل “نتعاتنا” و”شطحات” بعضنا، وظل مؤمناً بأن الأرض طيبة والتربة صالحة..
كيف يمكن ألا نكون معه؟؟ هكذا يصبح السؤال منطقياً أكثر..