الخلافات تربك الحراك الشعبي: «طلعت ريحتكم» تعرقل الإطار التنسيقي الموحّد إيفا الشوفي
بدلاً من الإعداد للتحرّك الشعبي التصعيدي في التاسع من آب وإيصال رسالة بليغة الى الزعماء بأن عليهم أن يرضخوا لما يطالب به الناس، غرقت المجموعات المنخرطة في هذا التحرّك في خلافاتها، بسبب إصرار مجموعة «طلعت ريحتكم» على التفرّد بقيادة الحراك الشعبي وإبقاء سقف مطالبه منخفضاً ومنحصراً بأزمة النفايات وإجراء الانتخابات كيفما كان… هناك مخاوف جدّية على الحراك من المواقف غير المسؤولة، التي يبدو أن أصحابها لم يدركوا أن المتظاهرين في 29 آب ذهبوا بعيداً في مطالبهم أبعد كثيراً ممّا تطرحه كل المجموعات
أوّل من أمس أعلنت معظم المجموعات التي شاركت في تظاهرة السبت الفائت تشكيل «لجنة متابعة تحرّك 29 آب». أول قرارات هذه اللجنة كان دعوة الناس إلى النزول إلى وزارة البيئة تضامناً مع ناشطي حملة «طلعت ريحتكم»، الذين اقتحموا مبنى الوزارة من دون أي تنسيق مسبق مع المجموعات الفاعلة الاخرى. تفرّد ناشطي الحملة بتنفيذ خطوتهم التصعيدية شكّل خضّة في هذا الاطار التنسيقي الموحّد الوليد، وأدّى الى تراجع مستوى الثقة بنيّات ناشطي الحملة المذكورة وأهدافهم الفعلية.
لكن لجنة المتابعة تجاوزت سريعاً ردّ الفعل السلبي بهدف الحفاظ على وحدة الحراك وعدم السماح بشق صفوفه، إلّا أنّ حملة «طلعت ريحتكم» لم تتعامل بالإيجابية نفسها، فصرّح أحد مؤسسيها، الناشط عماد بزي، لصحيفة «السفير» أمس، بأنّ الحملة «لديها نيّة غير مكتملة بعد، تقضي بالإعلان عن فك ارتباطها بكل الحملات والجمعيات والمجموعات في الحراك المدني». شكّل هذا التصريح ضربة لمحاولات توحيد الحراك، وعزز حالة انعدام الثقة بين المجموعات الناشطة المختلفة وبين حملة «طلعت ريحتكم».
كان من المفترض أن تجتمع اللجنة مع حملة «طلعت ريحتكم» أمس من أجل تذليل الخلافات التي بدأت تظهر، إلا أن منظمي الحملة اعتذروا عن عدم الحضور بحجّة وجود «أسباب صحية» تتصل بالعنف الذي تعرّضوا له في وزارة البيئة، ما استدعى تأجيل الاجتماع معهم الى اليوم، فيما استكملت المجموعات الاخرى نقاشاتها واتفقت على تشكيل لجان تخصصية منها: لجان محامين، إعلاميين، مناطق، ولجنة تواصل مهمتها التنسيق مع البلديات والهيئات المحلية.
يقول عماد بزي لـ»الأخبار» إنّ «جميع الخيارات مطروحة، وحتى اليوم (أي ظهر أمس) لا يزال الامر غير محسوم». كلام بزي يوحي بأن عدم الحضور الى الاجتماع لم يكن بسبب «الاسباب الصحية»، إذ إن هناك معلومات من داخل الحملة تشير الى وجود خلافات بين ناشطيها في شأن الانضمام الى لجنة المتابعة. وبحسب هذه المعلومات، يعارض مروان معلوف، مطلقاً، أي تنسيق مع المجموعات الاخرى، ويصرّ على التفرّد والعمل باستقلالية كاملة عن باقي مكوّنات الحراك، في حين ان بزّي نفسه وأسعد ذبيان يميلان أكثر الى إيجاد شكل ما للتنسيق من دون الوصول الى ما يعتبرانه ذوباناً في إطار موحّد مع المجموعات الاخرى.
لكن المسألة ليست في التنسيق أو عدمه، بل تكمن حقيقة في سقف الحراك ومطالبه، إذ إن معظم المجموعات المنضوية في لجنة المتابعة تريد أن ترفع سقف المطالب الى مستوى يحاكي مطالب الناس وشعاراتهم التي رفعوها في تظاهرة 29 آب، وبالتالي وضع برنامج عمل يسعى الى بناء دولة مدنية ديمقراطية تقوم على مبادئ حقوق الانسان والحريات العامة والشخصية والعدالة الاجتماعية، بما في ذلك إجراء انتخابات نيابية كأولوية، شرط أن تكون على أساس قانون يعتمد النسبية والدائرة الواسعة. إلا أن بعض ناشطي حملة «طلعت ريحتكم» يعتبرون ذلك برنامجاً يسارياً، ويرفضون حتى ذكر كلمة «عدالة اجتماعية»، وهم يصرّون على إبقاء الحراك في إطار حملة تهدف الى إثارة قضية النفايات فقط، وعندما وافقوا على إدراج مطلب الانتخابات، ردّدوا أنهم غير مهتمين بقانونها، وهو ما صرّح به معلوف على شاشة التلفزيون.
يتحدّث بزي عن الخلاف بين حملة «طلعت ريحتكم» والمجموعات الاخرى، ويقول بصراحة إن الخلاف هو على المطالب، إذ إنّ الحملة تريدها أن تبقى مطلبية أكثر، و»هناك مطالب طُرحت في الاجتماعات مع المجموعات الأخرى لا نوافق عليها»، ويصفها بأنها «مطالب ايديولوجية»! ويضيف «يجب البحث عن إطار يضمن استقلالية المجموعات ويكون جامعاً في الوقت نفسه من أجل التنسيق». إلا أن مصادر في الحملة (رفضت ذكر اسمها) تتحدّث بصراحة ووضوح، تقول إنّها «لا تريد أن يشاركها أحد في قراراتها وبياناتها وخياراتها، فهي تحبّذ أن تحافظ كل مجموعة على استقلاليتها وخطابها، لكنها تشجّع التنسيق بين المجموعات، وكانت أول الداعين الى خلق إطار تنظيمي. وهي ستشارك في خطوات التصعيد التي تنظّمها المجموعات الأخرى»، مضيفةً أنّها «متمسكة بمطالبها الأربعة في الوقت الحالي، من دون توسيع حجم المطالب كما تريد المجموعات الأخرى»، وهي معالجة أزمة النفايات واستقالة وزير البيئة ومحاسبة المعتدين على المتظاهرين وإجراء الانتخابات.
أحد الناشطين الذين كانوا يعملون على التنسيق بين المجموعات (رفض ذكر اسمه) أوضح أنّ حملة «طلعت ريحتكم» أرادت منذ البداية أن يكون التعاون مع الآخرين «استشارياً»، وهو ما أخاف المجموعات الأخرى، خصوصاً أنّ الحملة بقيت تراوغ ولا تعلن مرادها بوضوح، ما يعني أنّ الحملة (فعلياً) غير موافقة على «إعلان مبادئ الدفاع عن المجتمع» الذي صدر عن المجموعات بصيغة مشتركة، والذي حدّد مبادئ عامة للحراك، أبرزها «بناء دولة مدنية ديمقراطية عادلة تكفل الحقوق المدنيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة الأساسية»، علماً بأنها شاركت في الاجتماعات التي سبقت إعلانه. وهي عبّرت صراحةً في اجتماعاتها مع المجموعات عن رغبتها في بقاء المبادرة في أيديها، ومنظّمو الحملة يعلمون أنهم بذلك يعرّضون الحراك للفشل.
هكذا، يتبيّن أنّ النقاش حول شكل التصعيد يتجاوز الشكل الى المضمون، وعلى هذا الاساس تظهر التباينات بين المجموعات. فحملة «طلعت ريحتكم» أصبحت واضحة بأنها تريد تحقيق مسألتين: الأولى، وجودها المستقل عن باقي المجموعات وعدم ميلها إلى أي إطار تنسيقي مع المجموعات الأخرى يتجاوز التنسيق السطحي. والثانية، رؤيتها للحراك على أنه مجرد حملة تتعلق بالنفايات ورفضها تحت عناوين عدة أيّ اتجاه للاتفاق على برنامج عمل أوسع من الأهداف التي وضعتها في البداية.
ترى المجموعات الأخرى المشاركة في «لجنة متابعة تحرّك 29 آب» أنّ هذا الحراك الشعبي يجب ألّا يقتصر على أزمة النفايات، بل عليه أن يؤسس لحراك شامل يهدف الى تعديل السياسات الاقتصادية والاجتماعية بما يؤمن مصالح الفئات الاجتماعية المتضررة. وهذا ما تراه «طلعت ريحتكم» على أنه «أيديولوجيات» و»تسييس» للحراك و»خروج عن استقلاليتها عن القوى السياسية»، فيما هو «استكمال لمعركة الحقوق». ويرى المشاركون في اللجنة أنّ «أي حراك من دون مضمون سياسي يبقى حراكاً فارغاً»، وتشير مصادر معنيّة إلى أنّ المجموعات خفّضت سقف مطالبها مراعاةً لحملة «طلعت ريحتكم»، مع إصرارها على إعطاء الأولوية لملف النفايات وما ترتبط به، أي دور البلديات. لذلك فإن الحديث عن دور البلديات في حل مشكلة النفايات هو حديث عن علاقة السلطة بالبلديات، أي حديث سياسي، وبالتالي فإن سعي «طلعت ريحتكم» إلى إقصاء السياسة بالكامل عن الحملة هو تفريغ لمضمون المطالب التي تطرحها.
أولى نتائج هذا الخلاف تمثّلت في انسحاب الناشط الصحافي حسان الزين أمس من الحراك بعد خطوة «طلعت ريحتكم» أول من أمس. يؤكد الزين لـ»الأخبار» أنّه انسحب لأنه «لم يعد هناك ثقة بالتعامل بين المجموعات التي فقدت لغة التواصل بينها، وليس هناك أفق واضح للحراك»، متسائلاً «الى أين يتجه الحراك؟ لا أحد يعلم، ليس هناك أي اشارة الى وجود رؤية سياسية للحراك».
تلتقي آراء كثيرين اليوم على أن الخلاف الحاصل بين «طلعت ريحتكم» وبقية المجموعات والناشطين يضع الحراك أمام اتجاهين: الاول يريد أن يأخذ الحراك الى الوضوح عبر برنامج عمل سياسي يستهدف السياسات الاقتصادية والاجتماعية ويحدد معالم الدولة المدنية والعدالة الاجتماعية، وهو ما تعبر عنه المجموعات المندفعة الى تشكيل إطار تنسيقي موحّد. والاتجاه الثاني تعبّر عنه بوضوح أيضاً حملة «طلعت ريحتكم» التي تدفع كي يبقى الحراك مجرد حملة على خلفية أزمة النفايات، وبالتالي إبقاء الحراك فارغاً من أي مضمون سياسي حقيقي وجدي، وهو ما يعتبره الآخرون يسهّل استخدامه في أي اتجاه من قبل قوى السلطة المتربصة.
يُطرح هنا تساؤل مشروع: ما الذي قصدته حملة «طلعت ريحتكم» برفع شعار «يسقط يسقط حكم الأزعر»؟ هل حكم الأزعر، أي نظام الفساد، يقتصر على أزمة النفايات فقط أم يتعداها الى مختلف الملفات؟
لا تُنكر المجموعات دور «طلعت ريحتكم» في التحريض على أزمة النفايات، لكنّها في الوقت نفسه ترى أن من استقطب في تظاهرة السبت الفائت هو الحراك بمجمله، لذلك فإنّ المصلحة العامة للحراك تقتضي أن تكون «طلعت ريحتكم» جزءاً أساسياً منه، وهي مسؤولة عن صياغة خطاب وبرنامج عمل للحراك يحاكي مطالب الناس التي فرضت سقفاً عالياً، وبالتالي فإن انسحاب الحملة من الحراك سيكون تصرفاً غير مسؤول يؤدي الى إحباط الجميع.
تجري الاتصالات الكثيفة منذ أول من أمس بين مكونات لجنة متابعة تحرّك 29 آب والناشطين في حملة «طلعت ريحتكم»، وذلك بهدف البحث في كيفية تعزيز وتحصين الحراك ضمن الإطار التنظيمي المطروح، مع التأكيد على أنّ هذا الإطار لا يزال مرناً ولا بد من وضع آلية لاتخاذ القرارات فيه. وتشير المصادر الى أنّ الجميع واعٍ لأهمية التعاون والتنسيق بين المجموعات، بمن فيهم القيّمون على حملة «طلعت ريحتكم»، وهو ما ستتم بلورته قريباً.
في الوقت نفسه، يجري الإعداد لتحرك تصعيدي واسع في 9 أيلول بالتزامن مع انعقاد طاولة الحوار في المجلس النيابي. وأشارت مصادر من «طلعت ريحتكم» إلى أنّ الحملة ستشارك في هذا التحرك. حتى اليوم، يقتصر المخطط على تنظيم تظاهرة حاشدة اعتراضاً على محاولة توحيد قوى السلطة في مواجهة حراك المواطنين وحقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إلّا أنّ بعض المجموعات يطرح أن تذهب الأمور الى أبعد من ذلك، وصولاً إلى إقفال الطرقات المؤدية إلى مكان اجتماع رؤساء الكتل النيابية. يرى المحامي نزار صاغية أنّ «أخطر ردّ من الحكومة على ما حصل نهار السبت هو الدعوة الى الحوار بهدف إعادة توحيد الصف السياسي ضد المواطن»، داعياً الناس إلى تثبيت موقعهم، «لأن ما حصل السبت لم يكن لمرة واحدة فقط، بل هو عمل مستمر، ونعمل لتأمين أكبر حشد ممكن».
(الأخبار)