أسبوع المكان والهوية والحنين في متحف محمود درويش د. إيهاب بسيسو
في قراءة الذاكرة الفلسطينية روائياً أو أكاديمياً ما يشجع دوماً على طرح المزيد من الأسئلة حول تحولات المكان، وفلسفة البقاء، والقدرة على تجاوز حيل الجغرافيا والسياسة في الانتصار للرواية الإنسانية، تلك الرواية التي استمدت ثراءها من التجربة الذاتية وعمق الرؤية في مواجهة مسار التاريخ الذي تحاول المؤسسة الاستعمارية أن تحرف مفرداته في اتجاه مسار مغاير يعتمد على تشويه صورة المجتمع الفلسطيني قبل النكبة، وربطه بصور نمطية تكمل بدورها أهداف الإستراتيجية الاستعمارية بطمس الوجود الفلسطيني ثقافيا ومعرفياً .
في هذا السياق تأتي قراءة الذاكرة ضمن مشروع أشمل يعتمد على مواجهة ثقافية لأبعاد النكبة التي عرقل مسارها السياسي مشروع النهضة الفلسطينية في مطلع القرن العشرين.
على مدار أسبوع كان متحف محمود درويش في مدينة رام الله مركزاً لأسئلة عدة حول الهوية والذاكرة واللغة والمكان، التقت جميعها في ثلاث ندوات مختلفة، بدأت مع الروائي ربعي المدهون الذي وصل من لندن لإطلاق روايته الجديدة بعنوان مصائر: كونشرتو النكبة والهولكست، ثم استمرت مع د. جوني منصور الذي وصل من حيفا لإطلاق كتابه الجديد، حيفا: الكلمة التي صارت مدينة، واختتمت مع الروائي أنور حامد الذي وصل بدوره من لندن أيضاً للحديث عن تجربته الروائية، لا سيما روايته الأخيرة جنين 2002 والتي صدرت قبل عام.
تعدد مسارات النقاش خلال الندوات خلق حالة تفاعلية حول المدينة والمنفى والرؤية التي شكّلت العوالم الروائية عند ربعي المدهون وأنور حامد وعالم البحث الحَفري في تفاصيل المكان عند جوني منصور.
يمكن القول إن قراءة مشروع ربعي المدهون الروائي يضعنا أمام أسئلة الحنين المتعددة، ولكن الحنين عند ربعي المدهون، لا سيما في روايته الجديدة مصائر، يتخذ مساراً تفاعلياً فهو لم يتوقف عند خسارة المكان، بل ينطلق من تكوين موازٍ للصورة التي بقيت منذ النكبة، حيث يحمل هذا الحنين التفاعلي إشارات ذكية للتكوين المجتمعي الفلسطيني وتاريخ المدينة الفلسطينية ويوظفها في المسار السردي للمكان.
بهذا المعنى لم يغفل ربعي المدهون انتباهه إلى المصائر المتعددة التي قادتها النكبة إلى المنافي أو باستمرار الحياة في حيفا أو يافا أو عكا ضمن معطيات الحاضر، بل جعل من هذه المصائر بناء أساسياً لسرده الروائي الذي خرج إلى القارئ مستنداً إلى ثقافة الكاتب الموسيقية في صناعة كونشرتو الحكاية، معتمداً فيها على تجربته الذاتية في الإطلاع على المكان والتفاعل مع الصورة والحدث، مفصحاً في الوقت ذاته عن صور عدة للبقاء الفلسطيني في يافا وعكا والقدس وحيفا بعد النكبة، التقطها بعناية لافتة من التفاصيل اليومية
كإشارة أم جميل الذكية على سبيل المثال في الرواية: «بقولو الفلسطيني اللي بزور حيفا بيطلع منها مجنون بيطلع منها مجنون بلا عقل». ص 202
تلك العبارة حول حيفا وجنون الغياب عن المدينة كانت بمثابة مفتاح الحديث في الندوة الثانية في اليوم التالي لتقديم د. جوني منصور والحديث عن حيفا- المدينة، بدت العبارة بالغة العمق لما فيها من دلالات حول الذاكرة والحنين، كما بدا كتاب جوني منصور مرآة للمكان الذي أشار إليه ربعي المدهون في روايته مصائر، وكأنها عصا تتابع، التقطتها يد جوني منصور في كتابه حيفا: الكلمة التي صارت مدينة، من يد ربعي المدهون في رواية مصائر، ليكمل بها السباق نحو تكريس رواية المدينة قبل النكبة في إطار بحثي رصين ضم أكثر من ألف صورة عن حيفا التقت مع مقالاته المتعددة حول المكان وصوره الحياتية في سياق زمني وتاريخي يرمم صورة مدينة لم تكف يوماً عن الاحتفاظ بمكانتها كقلعة للثقافة والوطنية وجسراً بين الشرق والغرب والشرق والشرق.
في كتاب جوني منصور بدا واضحاً هذا التناغم بين الصورة والنص على امتداد صفحات الكتاب، ما جعل حيفا تعود مرة أخرى إلى طقسها الفلسطيني، بصحافتها وأعلامها وجمعياتها النسائية والاجتماعية ونواديها الرياضية ودور السينما وطقوس الأعياد والمناسبات الوطنية.
هذا الطقس الفلسطيني قدم فيه د. جوني منصور حيفا كوكباً للشرق، وهو ذات اللقب الذي أطلقته حيفا نفسها على الراحلة الكبيرة السيدة أم كلثوم ذات تاريخ بعيد، حين كان تحيي حفلاتها الغنائية في المدينة ليصبح اللقب الحيفاوي لأم كلثوم جزءاً من صورة الفنانة الكبيرة على مدار الزمن.
ليس بعيداً عن حيفا، تكمل عصا التتابع انتقالها من يد إلى يد، ففي الندوة الثالثة بدا مشروع أنور حامد الروائي، بمفرداته السردية مكملاً لمفردات المكان والحنين وسؤال الهوية، فاتخاذه من جنين فضاء مكانياً وعنواناً للحدث الروائي، أضاف بعداً جديداً للأسئلة التي رافقت الندوتين السابقتين، ولم يغفل في الوقت نفسه البعد التاريخي والاجتماعي ضمن مشروعه الروائي.
في روايته جنين 2002 يقوم الكاتب بإعادة بناء الرواية الفلسطينية للأحداث التي عصفت بالمخيم وذلك من خلال يوميات أريج الشايب، الطفلة التي كتبت عن المجزرة الإسرائيلية عام 2002، البناء السردي للرواية اعتمد على اليوميات برسالتها الإنسانية التي واجهت بها الطفلة تعدد أشكال الموت والغياب.
يد أنور حامد استمرت في مسار سباق التتابع نحو بناء صورة المكان من التجربة والذاكرة كما فعل ربعي المدهون في السيدة من تل أبيب وفي مصائر، أو كما فعل جوني منصور في أبحاثه عن المدنية خصوصاً في كتابه الأخير حيفا، حيث سار أنور حامد في نفس الاتجاه المعرفي ولكن ضمن مفرداته التي تشكل من خلالها مشروعه الروائي، فقبل رواية جنين 2002، كان قد أنجز رواية «يافا تعد قهوة الصباح» في عام 2012 والتي قدم فيها الواقع الاجتماعي في يافا في العشرينيات مبرزاً الفلكلور الفلسطيني في بناء سردي شيق، كأنه يعيد من خلاله حياة بعيدة تقاوم النسيان، كذلك الأمر في أعماله الروائية السابقة والتي تعددت فيها الفضاءات المكانية والزمنية بين فلسطين والمجر، كما في روايته حجارة الألم أو شهرزاد تقطف الزعتر في عنبتا أو جسور وشروخ وطيور لا تحلق.
يمكن القول إن تلك الندوات التي احتضنها متحف محمود درويش على مدار أسبوع، تميزت بقدرتها على طرح الأسئلة المعقدة في إطارات إبداعية، شكَّلت بتقديري حالة من حالات السباق الثقافي الذي فازت فيه الأمكنة والذاكرة بجدارة، مستعيدة فيها روحها العابرة لثنايا الزمن والأحداث.
وفي سياق الفوز الثقافي، يمكن القول إن النقاش الذي دار خلال الندوات أتاح بدوره المجال لكثير من التأمل والتفكير والأسئلة الإضافية حول ضرورة وأهمية الاستمرار في التعامل مع مفردات التاريخ والمكان برؤية نقدية إبداعية تتيح بدورها المجال لتعزيز وتكريس الرواية الفلسطينية في مواجهة كل محاولات التذويب أو الاقتلاع.