مع المطالب المشروعة ولكن! د. ليلى نقولا الرحباني
كانت الانتفاضة التي هبّت في لبنان طبيعية في ظل الفقر والتهميش والمعاناة، واستمرار قوى السلطة الحاكمة المستأثرة بغيّها وظلمها وفسادها، ضاربة بعرض الحائط كل المطالبات والمناشدات بالشراكة، والاستماع إلى صوت الشعب، والكفّ عن تخطي الدستور والقوانين ..
لكن، ما أن نزل اللبنانيون بالآلاف إلى الساحات حتى ظهرت مفارقات عدّة جعلت الظاهرة الممتازة تختلط بالكثير من التساؤلات والإشكاليات التي نذكر منها ما يلي:
1- محاولة السلطة ترهيب المتظاهرين من خلال إعطاء الأوامر للقوى الأمنية بالعنف والشدّة المفرطة وغير المبرَّرة، وذلك لأن التظاهرة السلمية شكّلت مصدر قلق للسلطة السياسية الحاكمة منذ عقد التسعينات، والتي انتبهت فجأة إلى أن الشعب بكافة طوائفة وفئاته بات قاب قوسين أو أدنى من الانفجار، وفي هذا تهديد لنفوذها وفسادها المتمادي منذ الطائف، والتي لم تعد تنفع معه الادعاءات المذهبية التي ما انفكت تتهم بأن كل من يطالب بمحاكمة من سرق أموال الدولة اللبنانية منذ عام 1992، إنما هو يمسّ بالرئيس رفيق الحريري، ويمسّ بالطائفة السُّنية، وفي هذا الادعاء ظلم للسُّنة قبل غيرهم من المدعى عليهم بهذا الاتهام المذهبي والطائفي.
2- وإذا كان عنف السلطة معروفاً ومتوقَعاً، فما لم يكن متوقعاً – على الأقل من قبَل الناس العاديين المشاركين بالتظاهرة – فهو تصرُّف الجهة الداعية إلى التظاهرة، أي حركة “طلعت ريحتكم”، وفيه:
أ- النزعة الحادة للإلغاء والاستئثار ورفض الآخر، وقد ظهرت من خلال البيانات والخطب والتصريحات لمنظمي التظاهرة الأساسية، والتي ظهرت وكأنها تريد أن “تفحص” أهلية كل مواطن، وإن كان يحق له المشاركة أم لا، وبدا حالهم كحال التكفيريين المنتشرين في المنطقة؛ إما أن تكون مثلنا ومطابق لنا في فكرك وتوجهاتك، أو ممنوع عليك أن تكون بالأساس.
وقد ظهر هذا الأمر خلال التظاهرة وبعدها، خصوصاً من خلال بيان الجمعية الذي طالب القوى الأمنية باعتقال “جميع من بقي في الساحة بعد إعلان الجمعية عن فكّ اعتصامها”، وهو يعني أن كل من لا ينتمي إلى المجموعة إياها، هو مجرم يستحق الاعتقال برأيها، بغض النظر عن الفعل الذي يقوم به.
ب- النزعة الطبقية المقيتة التي ظهرت من خلال الكلام العنصري الذي انتشر على الصفحة الرسمية لمنظمي التظاهرة، والذي يشي بأن “كل فقير هو بالسليقة مندس”، ثم ما لبثت أن تحوّلت الطبقية فيما بعد إلى عنصرية طائفية تتهم أهل “الخندق الغميق” بأنهم نزلوا إلى التظاهرة لتخريبها! وكأن الفقراء لا مكان لهم في تظاهرة “المجتمع المدني المودرن”، بل بات هؤلاء بفقرهم وغضبهم المكبوت مصدر إزعاج ، لذا ممنوع عليهم المشاركة في تظاهرة حاكت أوجاعهم وآلامهم وقهرهم المستمر منذ عقود.
ت- التعميم اللا أخلاقي واللا منطقي الذي مارسه منظمو التظاهرة ومن يدور في فلكهم؛ بأن وضعوا “الجميع في سلة واحدة”؛ فالكل فاسد والكل مرتهَن، ولا فرق بين القوى السياسية، ونقطة عا السطر ولا نقاش في ذلك.
اللافت أن مطالب المتظاهرين كانت هي نفسها المطالب التي طالب بها العماد عون في وقت سابق، وبالرغم من ذلك فإن هذا لم يعفه، بنظرهم، من مسؤولية التمديد لمجلس النواب – الذي كان تكتل التغيير والاصلاح الوحيد قد رفضه – ولم يعفِ وزير جديد في الحياة السياسية ومشهود له بالكفاءة ونظافة الكف من أن يتعرّض لكلام حاقد والتبجح بطرده من الساحة، وكأن الساحة باتت ملك منظمي التظاهرة وليست ملك أي مواطن لبناني طامح للتغيير.
ث- الشبهات التي تحوم حول منظمات “المجتمع المدني” بشكل عام، فالمواطنون كانوا قد لبّوا دعوة حركة “طلعت ريحتكم” انطلاقاً من شعورهم بضرورة التغيير، وأنه آن الأوان للمساءلة والمحاسبة وإسماع المعنيين صوت الشعب، بدون أن يعرفوا أو يستفسروا بالضبط من هي الجهة الداعية، ومن أين تأتي بتمويلها، أو ما هو برنامجها لما بعد المطالبة بمعالجة مشكلة النفايات المتراكمة.
وفجأة ظهرت أمامهم صيحات “الشعب يريد..” في محاولة تكرار مرعب لسيناريو لـ”الثورات العربية”، فعادت إلى الأذهان “وصفات الثورات الملونة” المصنوعة في أميركا، والتي امتدت من البلقان إلى العالم العربي ثم إلى أوكرانيا مرة أخرى.. وبدأت الأنظار تتجه إلى منظمي التظاهرة وارتباطاتهم الخارجية، وتمويلهم الخارجي المعروف.. وعندها عُرف سبب مهاجمة العماد عون، وبطل العجب.
بالنتيجة، لا يمكن لأي مواطن لبناني مؤمن بلبنان وطامح لدولة قانون تحفظ له مواطنيته وتحترم حقوقه وتحميه، إلا أن يكون مع المطالب التي يتم رفعها في ساحات التظاهر في رياض الصلح وساحة النجمة.. لكن، ليس كل ما يلمع ذهباً، ولكي نقتنع حقاً بأن ما يُعرض علينا هو ذهب خالص، على منظمي التظاهرة أن يتواضعوا، فيعندوا الى تقويم التجربة، ويصححوا المسار، ويثبتوا عدم تلقيهم الإرشادات والتوجيهات من السفارات كمعظم منظمات المجتمع المدني “المشبوهة” في العالم.