ثوّار الصباح ينتفضون لرصاص الليل مادونا سمعان
إلى الساحة توافدوا صباح أمس، لم يخِفهم إطلاق الرصاص ولا خراطيم المياه ولا القنابل المسيّلة للدموع. ولم يأتوا وحيدين بل اصطحبوا معهم أطفالاً ويافعين. منهم من أصرّ على استكمال تظاهرة أمس الأول مهما أتت العواقب. ومنهم من أراد الانضمام إلى الحشود ليس فقط احتجاجاً على تفاقم أزمة النفايات وغيرها من الأزمات، بل استنكاراً لكيفية تعاطي القوى الأمنية مع المتظاهرين مساء السبت.
بين الحشود الأمامية للتظاهرة حاول شبان مكممون، لا يتخطى عددهم أصابع اليد الواحدة، اجتياز الأسلاك الشائكة التي عززتها القوى الأمنية. مرّة مرّتين وأكثر. لكنهم باؤوا بالفشل أمام تصميم منظمي تظاهرة «طلعت ريحتكم» على بقائها سلمية. تلهّى بهم الحشد لفترة وجيزة، قبل أن يضع المنظمون حواجز بلاستيكية أمام الأسلاك منعاً لاجتيازها. أطلق المتظاهرون شعارات مختلفة أبرزها شعار الثورة ورددوا بعيد المؤتمر الصحافي لرئيس مجلس الوزراء تمام سلام «الشعب يريد إسقاط النظام» و «يا بيروت ثوري ثوري». وشدّد أكثر من شخص منهم على رفضهم القاطع للحوار مع سلام أو أي زعيم من الزعماء، واستمرار تحرّكهم حتى إسقاط الحكومة.
بعد الواحدة من بعد الظهر كان بعض المعتصمين ينتظرون بفارغ الصبر مقررات اجتماع المنظمين لمعرفة اتجاه التحرّك. منهم من عبَّر عن التزامه بالقرارات، مثل جورج مبارك، الطالب الجامعي الذي أتى برفقة زملائه، على اعتبار أن لا تحرّك ناجحاً من دون رأس و «إذا انكفأ المنظمون تفقد التظاهرة جدّيتها».
لم يأت جميل احتجاجاً على موضوع النفايات فقط، بل هو فعلياً يريد إسقاط النظام. لكنّ غيره من المعتصمين أصرّوا على الاستمرار به حتى إسقاط الحكومة. يقول محمد علي خليفة «أظنّها آخر فرصة للشعب اللبناني لرفع الصوت فنحن بتنا في الحضيض، وها هم يلوّحون بعدم دفع رواتب القطاع العام لتضاف أزمة جديدة إلى أزمة الكهرباء والنفايات والسلسلة». بالنسبة إليه لا تراجع قبل الاستقالة و «لا خوف من الفراغ لأن وجودهم على الكراسي هو فراغ بحدّ ذاته». مثله يعتبر صخر طالب أنها الفرصة الأخيرة لينتفض الشعب لكرامته وعنفوانه. يعلّق «مللنا من الوعود وقد سخروا منّا طويلاً ونحن لا نحرّك ساكناً. وقصة النفايات وجلسات مجلس الوزراء باتت أخيراً تشبه سحب اللوتو: إذا مش الثلاثاء.. الخميس!».
حتى ماتيو الصغير، ابن السبعة أعوام، يصرّ على إيجاد حلول لملف النفايات وغيره من الملفات. يشرح أنه يجب ألا تبقى الشوارع وسخة لما لذلك من آثار على الصحة والبيئة، على الأقل هذا ما شرحته له والدته ومعلّماته. يريد لبنان كما كندا، البلد الذي يزوره في شهر تموز من كل سنة. لم تخف أمّه من اصطحابه إلى مكان التظاهرة، وتشرح أنه لا بدّ من المشاركة ولا بدّ من أن يكون الأطفال رادعاً لظلم القوى الأمنية. يؤلمها أن يكون الشعب مستسلماً إلى أقصى الحدود، وهي أتت للمطالبة بأكثر من رفع النفايات، مشدّدة على حقوق المرأة ومذكّرة بأن «البلد الذي يقتل فيه أشخاص من دون محاسبة يجب أن يعاد النظر بأنظمته وقوانينه. وليس هؤلاء الزعماء مَن سيقوم بذلك».
عند الثالثة من بعد الظهر كانت ساحة رياض الصلح قد امتلأت بالمحتجّين. انتظروا انتهاء اجتماع المنظمين ليطمئنوا أن تحرّك أمس وقبله، لم يكن «همروجة وانتهت» وفق علياء حرب. كانت تخاف من تراجعهم وبالتالي ضعضعة المعتصمين. لكنّ إعلان حسن شمص باسم التجمّع عن استمرار التحرّك حتى إسقاط الحكومة وانطلاق تظاهرة جديدة عند السادسة مساء، أراح قلق النفوس، خصوصاً أن معظمهم لم يرضوا بمدّ يد الحوار إلى رئيس الحكومة أو أي فرد منها. علّق أحد المتظاهرين بالقول «كلام سلام CHIC ولائق ولكن لا يبني أوطاناً ولا يحلّ حتى أزمة واحدة». ولعلّ نقمة المتظاهرين لا تطال سلام فقط بل كل الزعماء والسياسيين، من هنا كرّر أكثر من واحد منهم رفضهم لانضمام أي حزب أو تيار إليهم «لأن اعتصامنا موجه ضدّهم جميعاً ولن نكون الحصان الذي يمتطونه للمزايدات السياسية»، وفق ما يقوله ميشال خويري.
لعلّها المرة الأولى منذ زمن الذي يشهد فيه لبنان تظاهرة «نظيفة»، لا عَلَم مرفوع فيها غير العلم اللبناني ولا صوت يعلو فيها غير صوت الشعب المطالب بأبسط الحقوق. فيها اجتمع البقال وسائق التكسي مع الأستاذ الجامعي والطالب والأم والصبّية. اختلطت فيها الأطياف والمشارب حتى انصهرت نابذة أي وصمة طائفية أو مناطقية. وإلى أن تأتي بثمارها، على المتظاهرين الدعاء أن لا يتم خرقهم من قبل سياسيين يعرفون من أين تؤكل الكتف وكيف تطوى صفحات من التاريخ من دون أن يقفل حتى ملف واحد. وعلى الشعب أن يصلّي أن تكون الثورة للحق والحقيقة قد انطلقت حتى ولو من باب النفايات.
(السفير)