ماذا ننتظر؟
فاطمة طفيلي
دخلت أزمة النفايات في لبنان شهرها الثاني وجبالها ترتفع في كل مكان ورائحتها تعبق في الزوايا والممرات لتخنق من بقيت لديهم انوف قادرة على تمييز روائح العفن المنتشر على اكثر من صعيد.
بلد الارز الذي تغنى به الشعراء والمداحون ينوء من ثقل الازمات وروائحها ولا يعرف طريقا للخلاص، فيما مسؤولوه يستمهلون، يناقشون ويدرسون بأي اوصاف الشعب ينعتون، هذا الشعب الصابر على ما يقترفون بحقه، تراه اليوم قانعا مستسلما وهم في غيهم ماضون، والحلول الوحيدة التي اثبتوا قدرتهم على اجتراحها هي تحميل الشعب مسؤولية ما يجري، كيف لا وهو الشعب ذاته من ينتج النفايات ويرميها في الشارع دون ان يقدّر العواقب الوخيمة لأفعاله المشينة، وقد منحوه الفرصة تلو الأخرى، عله يرتدع ويرعوي، لكن من دون جدوى، وعبثا حاولوا التدقيق والتمحيص في سر إصراره اللامسؤول على المراهنة عليهم، أو على الأقل على بعضهم، ممن سيعي خطورة الوضع ويستفيق من سباته، وقد أنذروه مرارا بالعواقب الوخيمة لأفعاله فلم يسمع ولم يقتنع ان البلديات وحدها القادرة على الحل، وإن كان لبعضها شرف الريادة في البدء بالمعالجة، فالمبادرات الفردية لا تكفي في حالة كهذه، تحتاج الى خطط شاملة وحلول مستدامة.
وبعدما أعيتهم الحيلة في كتم الأنفاس وإخماد الأصوات فوجئوا بأن في لبنان من لا يزال يراهن على بناء وطن نظيف معافى ويطمح لاستعمال العقل والعلم، مجموعة من الشباب الحالم بوطن المستقبل، ممن عقدوا العزم على البقاء والمطالبة بحلول سريعة، تنقذ البلد وأهله من كارثة محققة إذا ما استمر الوضع على ذات المنوال من الاستهتار والمراوحة، وهم العارفون أن في الحلول الآنية والمؤقتة هلاكا محتوما، وهو ما يؤكده المتخصصون، الذين حذروا من أن حرق النفايات في المكبات المفتوحة يؤدي الى انبعاث غاز أول أوكسيد الكربون (co)، وهو غاز بلا رائحة، وفي استنشاقه خطر كبير على الرئتين وعلى الجهاز التنفسي وهو يمنع الاوكسيجين من الوصول الى انحاء الجسد ولا سيما الدماغ والقلب، ناهيك عن الغازات الأخرى مثل الديوكسين (duoxine)، المعادن الثقيلة، باريوم، أوكسيد النيتروجين، الرصاص والزئبق، وكلها مواد يسبب استنشاقها أضرارا في جهاز التنفس وضمورا في العضلات واختلالا في عمل الكبد وارتفاعا في ضغط الدم وضعفا في جهاز المناعة، وتلفا في الدماغ والجهاز العصبي، بالإضافة الى ظهور علامات داكنة على الجلد، ويؤدي الى تشوهات في الأجنّة لدى النساء الحوامل ومشاكل صحية كارثية، وبالرغم من كل ذلك تستمر عمليات الحرق لمنع تراكم النفايات، وأعمدة الدخان التي تشاهد في المناطق تبشر بتلوث للأجواء عام وشامل.
أما الطمر وبالطريقة التي تجري في أمكان عشوائية وبلا عزل فحدّث ولا حرج، وهنا الأخطار لا تقل فداحة عن الحرق، وهي وإن كانت مفاعيل اختمارها وتأكسدها طويلة الأمد نسبيا، إلا انها ستصدر سموما وملوثات تتغلغل في التربة وتتسرب الى المياه الجوفية لتلوث كل شيء من المياه الى المزروعات، لتطال كل أشكال الحياة، ولا حاجة لنا الى المزيد من المواد المسرطنة ففي بيئتنا منها ما يكفي ويزيد. يبقى رش الكلس على النفايات لعزلها ومنع ضررها وسمومها من الانتشار حلا مؤقتا لا يتعدى الأيام بانتظار معالجة لا تحصل.
فماذا انتجت حال الطواريء التي قيل انها مستمرة سوى التباطؤ والاستمهال لفض مناقصات مشاريع يحتاج البدء بها الى أشهر من الاستعداد والتحضير والتجهيز، وفيها أفخاخ وتداخلات قد تطيح بها وتعيدنا الى نقطة البداية، وفي أسوأ الأحوال الى مزيد من الانتظار المضني على قارعة الأخطار المحدقة، وليشهد بداية الحدث السعيد القادر على الصمود سليما معافى، والسؤال الجوهري البريء في هذه الحال: ماذا سيحل بوطن الأرز، وهل هذا ما يخطط له المسؤولون للخلاص؟!.
الخطر داهم والأزمة الى مزيد من التفاقم، ونحن أمام طريقين لا ثالث لهما، إما الخنوع والتسليم أو الخروج عن صمتنا وسلبيتنا والمبادرة الى شد أزر شبابنا، الذين ينتظرون الدعم من الجميع ويعرفون طريق الحل، فلنقف الى جانبهم ونعلي الصرخة، بمعزل عن وسمهم بنعوت وأوصاف، وإن صح بعضها، لا تنفي عنهم صفة الانتصار للحق والنطق باسم اللبنانيين جميعا. لنخرج عن صمتنا جميعا ولنطلق صرخة احتجاج مدوية تصم آذان المسؤولين وتدفعهم الى وقفة ضمير تنقذ البلد من كارثة كبرى. لنتوحد ولو لمرة رفضا لخطر داهم يهدد الجميع دون تفرقة بين منطقة أو دين أو انتماء؟. سماؤنا واحدة، الهواء الذي نتنفسه واحد، ومصادر غذائنا واحدة، بمعزل عن الكمّ والنوع والتصنيفات الطبقية، فهل نفعل ونغادر خانة الصمت الخانق، لنفتح أفواهنا المقفلة على كمّ موجع من الأنين، ونفرج عن معاناة مكبوتة قبل أن تخنقنا نفاياتنا وتكتم ما تبقى لنا من أنفاس، أم نبقى على قارعة الانتظار القاتل؟!!.