لماذا اعتمدت المقاومة «استراتيجية وادي الحجير»؟ وما المفاعيل؟ العميد د. أمين محمد حطيط
استبق العدو «الإسرائيلي» الذكرى التاسعة لهزيمته في تموز 2006 وأعلن استراتيجيته العسكرية الجديدة التي فصلنا مضامينها وأركانها ودلالاتها في حديث سابق وجاءه الرد المقاوم من احتفال الانتصار في وادي الحجير حيث أعلن السيد حسن نصرالله «استراتيجية وادي الحجير» للدفاع، ونعى طموح «إسرائيل» إلى أي استراتيجية تمكنها من الانتصار على المقاومة، مؤكداً أنه لن تكون هناك استراتيجية قادرة على تحقيق الأهداف «الإسرائيلية» من أي عدوان على لبنان في شكل خاص وعلى محور المقاومة وعلى ما تسميه «إسرائيل» الجبهة الشمالية في شكل عام.
واكبت إسرائيل هذا المبارزة بإعلان الاستراتيجيات بمناورة عسكرية كبرى حاكت احتمال قيامها بعمل عسكري واسع على الاتجاه السوري، يعوّل عليه مسؤوليها باعتباره قد يكون عملاً ضرورياً في لحظة معينة متصلة في شكل أساس بما ستؤول إليه المواجهات والعمليات الإرهابية الجارية على أرض سورية. هذه الوقائع وما يتصل بها من مواقف وأحداث طرحت السؤال: هل أنّ المنطقة باتت على عتبة حرب جدية قد تبادر إليها «إسرائيل» بجيشها ضد محور المقاومة؟
من يقرأ في استراتيجية العدو الجديدة يجد أنّ الدفاع أو الحماية هي جوهرها المبني على ما تراه من مخاطر متأتية من قدرات الخصم وهاجس اختراق العدو للدفاعات الحدودية والدخول للسيطرة على حيّز جغرافي ما في فلسطين المحتلة، كما وقدرة الأطراف الأشدّ خطراً على «إسرائيل» حزب الله كما تشير الوثيقة قدرته النارية التي تضع فلسطين المحتلة كلها تحت النار. ما يعني أن الدفاع «الإسرائيلي» الناجع يفترض أن يكون متوجهاً في أي حرب مقبلة نحو أمرين أساسيين: تعطيل الثقل الناري المعطل للحياة في «إسرائيل» كلها تقريباً، ومعالجة الاختراق البري المعطل أو المؤثر على حياة مليون «إسرائيلي» وأكثر يستعمرون الآن المنطقة الشمالية من فلسطين المحتلة. بالتالي تكون «إسرائيل» ملزمة في أي حرب مقبلة بتخصيص جزء رئيسي من قدراتها لمعالجة هذين الخطرين.
وهنا نعود إلى وثيقة أزنكوت التي ركزت على دور القوات البرية خصوصاً المشاة وأكثر تحديداً القوات الخاصة من جهة وعلى العمليات بالعمق من جهة ثانية وهنا بيت القصيد بما شاء العدو التهديد أو التلويح به للمقاومة. حيث أن معالجة الخطر الناري لا يمكن أن تتم كما ترى «إسرائيل» من الجو فقط، بعد أن جرب العدو ما اسماه «نظرية الضاحية» وأنزل بمقتضاها التدمير الشامل بمنطقة كاملة لم يبقِ فيها حجراً على حجر وعلى رغم ذلك ظلت صواريخ المقاومة في أعلى جاهزيتها محافظة على مستوى إطلاقها الثابت أو الصاعد أحياناً حتى اللحظة الأخيرة من حرب تموز. ما يعني أن الطيران لن يجدي مستقبلاً في معالجة هذا الخطر، وتبقى عمليات العمق التي تستهدف قواعد الصواريخ ومخازنها قريبها وبعيدها هي الحل، أي أن «إسرائيل» ترى أن الدفاع المجدي سيكون مرتكزاً على العمل البري ليس من أجل احتلال الأرض كما كان سابقاً بل من أجل تدمير قدرات العدو للتخلص من خطرها كما بات مفهوماً من وثيقة ازنكوت وهذه النقطة الهامة بالغة الدلالات في الاستراتيجية الجديدة، حيث يكون انقلاب «إسرائيلي» على استراتيجية بن غوريون التي اعتمدت الهجوم واحتلال الأرض أساساً لها عبر عنه بن غوريون بقوله «تكون حدودنا حيث تصل جنازير دباباتنا». أما اليوم فان الدبابة مهددة إذا تقدمت، والعمق «الإسرائيلي» مهدّد بنار العدو إن لم تعالج، ومنطق الحدود الآمنة اهتز إلى ما يقارب السقوط وهذا ما يمثله الخطر الثاني، خطر الاختراق.
فالخطر هذا أي الاقتحام واحتلال الأرض من قبل المقاومة يؤرق «إسرائيل» أيضاً وقد راوغت الوثيقة بالتعرض إليه ولكن لم تتوصل إلى وضع الحل الناجع المطمئن. ويستشف مما نشر أن العدو سيعمل لمعالجته على اتجاهين، الأول هجومي استباقي مركب من نار وحركة ينفذه في أرض الخصم عبر العمل البري بالعمق أيضاً مصحوباً بعمل استخباراتي مكثف ومتواصل للتصدي للمجموعات المعدة للاقتحام والإجهاز عليها قبل انطلاقها والثاني دفاعي محض يتوجه لمعالجة النتائج إذا تحققت وتمكنت المقاومة من الاختراق والاحتلال والسيطرة «ومسك الرهائن الجماعية».
ومع هذا التصور وعلى رغم الإسهاب في كثير من الأحيان في الشرح والتحليل وعرض الرؤى العسكرية المستقبلية لمعالجة الأخطار لم تجب وثيقة أزنكوت على سؤال بالغ الأهمية بالنسبة للمجتمع «الإسرائيلي»، وهو السؤال المتعلق بالأمن ولم يجرؤ واضعو الوثيقة على القول أن «إسرائيل مع الاستراتيجية الجديدة ستكون آمنة في شكل محكم»، بل أبقت الأمر في حالة من الضبابية والوعود توزيع المسؤوليات على هذا الصعيد أو ذاك. وقد يكون التلويح أو التهديد بعمليات العمق والامتناع عن التهديد باحتلال أرض جديدة أو السيطرة على مناطق خارج ما تسيطر عليه «إسرائيل» حالياً، قد يكون ذلك الإيجابية الوحيدة ذات الصلة بالاهتمام «الإسرائيلي» العام نظراً لأن ذلك يتصل مباشرة بهمه الأمني الأساسي.
في ظل هذا المشهد تكمن أهمية إعلان المقاومة أو تهديدها بـ «استراتيجية وادي الحجير»، فماذا تعني هذه الاستراتيجية وما قصد المقاومة من الآن من الإعلان عنها؟ وما هي مفاعيلها على مجريات المواجهة والصراع مع العدو؟
بداية وقبل الإجابة يهمني أن أذكر ما استوقفني من كلام لأحد الاستراتيجيين الأوربيين في تعليقه على خطاب السيد حسن نصر الله في وادي الحجير استوقفني قوله: «أن هذا الرجل الذي لم يدخل كما يبدو كلية عسكرية، يعتبر بحق من كبار الاستراتيجيين في العالم المعاصر، ومن كبار قادة الحرب النفسية» مع أننا لم نكن ننتظر كلاماً أجنبياً حتى نعرف هذا، فالسيد حسن نصر الله فاجأ العالم في 14 تموز 2006 عندما أعطى أمر عمليات مباشر على الهواء مباشرة وكانت الاستجابة له تدميراً لبارجة «إسرائيلية» في شكل فوري في عرض البحر.
واليوم وعندما يعلن السيد نصر الله عن استراتيجية المقاومة الجديدة في مواجهة استراتيجية «إسرائيل» الجديدة وتحت تسمية وادي الحجير فإنه يكون قد حقق ما يلي:
1 ـ أفهم العدو بأنه فهم استراتيجيته الجديدة جيداً، وعرف قصده من إعلانها مستبقاً خطاب الاحتفال بذكرى النصر في وادي الحجير بأكثر من 48 ساعة، ويكون السيد قد أكد للعدو أن المقاومة فهمت قصده وتهويله وهي ترد عليه باستراتيجية تنقض ما خطط، استراتيجية تصون معادلة توازن الردع في شكل مؤكد.
2 ـ أفهم العدو أنّ المقاومة فهمت جيداً الاستراتيجية الجديدة القائمة على مبدأ عمليات العمق والحرب البرية لتدمير قدرات المقاومة، ولهذا رد عليها بأن المقاومة جاهزة لتجعل من أي أرض يطأها العدو في مواجهة محور المقاومة وادي حجير آخر، أي بدل أن تتمكن «إسرائيل» من تدمير الأهداف التي تتوجه إليها قواتها البرية فإن هذه القوات ذاتها ستدمر كما دمرت دبابات الميركافا 4 ال 40 في وادي الحجير وكما حوصرت وشلت حركة قوات المظليين الذين أنزلوا على التلال المحيطة بوادي الحجير حيث جاءت المقاومة يوم الاحتفال بذكرى الانتصار برجالها المدججين للتدليل على كيفية الترقب والتحضر.
3 ـ أفهم العدو أن ما يعول عليه من تدابير استباقية أو دفاعية تمكنه من معالجة ثغرات الأمن في الجبهة الداخلية هو أمر لن يصل إليه، بالتالي لن تكون لديه استراتيجية ناجعة لتحقيق هذا الهدف.
هذه المعاني والرسائل تقود في شكل سريع إلى نتيجة حاسمة قد تكون هي موضع اهتمام المعنيين بالحرب ويسألون هل تقع ومتى؟ أما نحن وعلى ضوء رؤيتنا السابقة التي ما زلنا نتمسك بها منذ العام 2006 وما تلاها وعلى ضوء استراتيجية «إسرائيل» الجديدة مضموناً ودلالات والرد المقاوم الحازم نقول إن المبارزة بالاستراتيجيات وإعلانها من قبل «إسرائيل» والرد من قبل المقاومة كان من شأنه تعزيز مفاعيل معادلة توازن الردع أولاً وأبعاد الحرب التي تعد لها «إسرائيل» ثانياً إبعادها لأجل غير منظور على رغم أنّ «إسرائيل» تعدّ دائماً لها وأرادت أن توحي باستراتيجيتها الأخيرة بأنها في حالة حرب دائمة إما أعداداً أو تنفيذاً وقتالاً.
(البناء)