إدلب أخيراً عامر نعيم الياس
ثلاثمئة قذيفة على المدنيين المحاصَرين في الفوعا وكفريا كانت كافية لإنهاء الهدنة التي شملت البلدتين السابقين إلى جانب مدينة الزبداني قرب دمشق. حركة «أحرار الشام» التي تتودّد للأميركيين التزمت القرار المشترك الصادر عن الدوحة واسطنبول وحتى واشنطن التي لا تريد مباشرةً الاندفاع في المسار الجديد لمراجعة الاستراتيجية الخاصة في سورية، إلى الحدّ الذي تنزع في الأوراق التفاوضية دفعةً واحدة من يديها سواء السياسية المتعلقة بالمرحلة الانتقالية و«دور الأسد في الحرب على الإرهاب» الذي دخل البازار الروسي ـ الأميركي، أو حتى ميدانياً وعسكرياً المتعلّق بكيفية انتشار المجموعات المرتبطة بشكلٍ أو بآخر بواشنطن وحلفائها. فالانسحاب من الزبداني بهذه الطريقة يعني أمرين: الأول، خسارة ورقة مهمة في محيط العاصمة دمشق وعلى الحدود السورية ـ اللبنانية. والثاني، تكرار سيناريو حمص القديمة والباصات الخضراء، الذي من شأنه أن يحقق جملة أهداف للدولة السورية ويضرّ بهذه الصورة المصطنعة المصنّعة لما يسمى «ثورةً سورية». فالمسلحون «الثوار» يقبلون عند حصارهم بالخروج بالباصات الخضراء وتحت إشراف الأجهزة الأمنية السورية. وعليه، لم يحصل أيّ اتفاق في شأن خروج المسلحين الإسلاميين من مدينة الزبداني، لكن ماذا عن الدولة السورية وخفايا الاتفاق الذي لم يبصر النور؟
تناقلت وسائل الإعلام مقتطفات من الاتفاق الذي كاد أن يبرم بين الوسيط الإيراني وحركة «أحرار الشام» المنتمية بشكل غير رسمي إلى تنظيم «القاعدة»، والتي تعدّ من أقدم الحركات الإرهابية العاملة على الأرض السورية ويسبق تأسيسها تأسيس «جبهة النصرة» التي تعتبر رسمياً الذراع الوحيدة لـ«القاعدة» في سورية. وفي الاتفاق وردت فقرة تتعلق برفض الدولة السورية انسحاب الإرهابيين إلى مدينة درعا، والإصرار على نقلهم إلى مدينة إدلب في شمال غرب البلاد، مقابل إخلاء المدنيين المحاصرين في الفوعة وكفريا إلى جانب وحدات الحماية الشعبية العاملة هناك. فلماذا رفضت الدولة السورية الانسحاب إلى درعا وقبلت الانسحاب نهائياً من محافظة إدلب ونقل الإرهابيين من حركة «أحرار الشام» إليها؟ ألا يشكل ذلك عبئاً إضافياً على الدولة السورية في أي محاولة لاسترجاع المحافظة الحدودية المفتوحة على تركيا؟ ماذا عن الأسئلة الخاصة بالاحتلال الاقتصادي وخلق شبكة مصالح لسكان هذه المناطق لا يمكن فصم عراها بسهولة؟ ماذا عن استبدال الليرة السورية بالليرة التركية؟
من الواضح أن محافظة إدلب تأتي أخيراً في المعادلة الميدانية التي تتحكم بأولويات العقل العسكري للدولة السورية، إذ تتّجه دمشق تدريجياً إلى إخلاء هذه المنطقة والاستعاضة عن هذه الرقعة الجغرافية بتثبيت خطوط تماس جديدة في سهل الغاب في محافظة حماة، وفي نقاط التماس بين محافظتَي إدلب واللاذقية، يقيناً من الدولة السورية بصعوبة المهمة حالياً في ظل التعنّت التركي المستمر في الملف السوري، وعدم وجود قرار دولي بإغلاق الحدود السورية ـ التركية وتحديداً في نقطتها الأكثر خروجاً عن السيطرة ممثلةً بريف إدلب. وعليه، يبدو أن التركيز ينصبّ على إخراج الإرهابيين من مناطق حساسة تقع في المديين القريب والمتوسط قرب العاصمة دمشق، وتجميع الثقل الأساسي للميليشيات «القاعدية» المسلحة في محافظة إدلب مع العمل بشكلٍ متوازٍ على تعزيز خطوط الدفاع عن الجزء الذي لا يزال تحت سيطرة الجيش السوري من مدينة حلب، كون لا مخطط ناجحاً لتركيا ولا تقسيم لبلاد ولا انهيار للدولة وانكماش لا رجعة فيه في قدراتها إن استمر وجودها في العاصمة الاقتصادية للبلاد.
إدلب أخيراً، والمسلحون ممنوعون من الخروج باتجاه درعا، فإما أن يُقتَلوا أو أن يذهبوا بالباصات الخضراء إلى محافظة إدلب.
(البناء)