إسلام بلا مسلمين د. فايز رشيد
بدايات القرن الماضي, زارالإمام الشيخ محمد عبده. أوروبا , وعاد ليقول بعدها مقولته الشهيرة: ” رأيت في أوروبا إسلاما بلا مسلمين, وفي بلادنا رأيت مسلمين بلا إسلام”. قول مشهور لا يزال إلى يومنا هذا, يردده الكثير من المسلمين. لا اعتقد أن الشيخ اراد مدح الاوروبيين, بل إنه اراد الإشادة بمنظومة مسلكية ينتهجهونها! والاعتراض على شبيهتها في العالم العربي, مع أن أمتنا هي المؤهلة بالطبع لتُشكّل للعالم باسره القيم الاصيلة, ومنظومة الأخلاق المثالية, التي هي بمثابة قدوة للآخرين..”كنتم خير أمة أُخرجت للناس” , “إنك لعلى خُلق عظيم” ,”الدين المعاملة” وغيرها من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة.الطائفية وصلت في العالم العربي حدود الاحتراب! فصائل إسلامية تّدعي الإسلام وتمارس الذبح! فصيل إسلامي يعقد هدنة طويلة مع العدو الصهيوني!.. وقس على ذلك.الدين الإسلامي هو دين المحبة, التآخي, التعاطف,احترام الآخر , دقة المواعيد, الجهاد.. وكل ما هو جميل. وحتى لا يصب ما قلته في المجرى الطائفي.. فإن المسيحية لا تقلّ في قيمها عما جاء به الإسلام. الناظر لمجموعة من القيم التي أخذت تنتشر طولا وعرضنا في أمتنا, يُذهل مما كانت عليه الأحوال على هذا الصعيد قبل سنوات قريبة سابقة ,وعما هي الأحوال اليوم. الشيخ محمد عبده هو مسلم حقيقي, له مؤلفات فقهية كثيرة ,ويُعدّ واحدًا من أبرز المجددين في الفقه الإسلامي في العصر الحديث، وأحد دعاة الإصلاح وأعلام النهضة العربية الحديثة, فقد ساهم بعلمه ووعيه واجتهاده في تحرير العقل العربي من الجمود الذي أصابه لعدة قرون، كما شارك في إيقاظ وعي الأمة نحو التحرر، وبعث الوطنية، وإحياء الاجتهاد الفقهي لمواكبة التطورات السريعة في العلم، ومسايرة حركة المجتمع وتطوره في مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية. وقد تأثر به العديد من رواد النهضة العربية الحديثة.
حرّي القول: أن من بين عشرات الآلاف من العناوين التي قرأتها , والتي تدور ولو قليلا حول الموضوع المطروح, استوقفني عنوانان : الأول , عنوان مجموعة قصصية للراحل الشهيد , المبدع غسان كنفاني : ” عالم ليس لنا”. الثاني , ” لن يفهمني أحد غير الزيتون ” وهو عنوان قصيدة للشاعر عزالدين المناصرة . العنوانان ( برغم أن الكاتب الراحل والشاعر ربما ارادا من إيحاءاتهما: أشياء وقضايا أخرى ), لكنهما ينطقان بنوع من الغربة عن القيم المجتمعية السائدة حاليا! . في أحيان كثيرة : ومن قبل كثيرين, يجري وصف من قام بالنصب بـ ” الفهلوي ” !, ووصف الانسان “الأمين ” الذي لا يستثمر منصبه بنهب المال العام والاغتناء , والذي قد يستدين من أجل قضاء حوائجه الحياتية العائلية بـ ” الهبَل ” ! . ” المنافق ” أصبح ” ذكيا ” يعرف كيف يغتنم الفرصة ! , والذي يقول الحق ولو على قطع رأسه , “غير تكتيكي ” و ” عدواني”. يجري تقييم الإنسان حاليا من قبل الكثيرين , وفق ما يملكه من أموال , وليس لأخلاقه ! وكذلك من حيث مدى احترامه من قبل عديدين في مجتمعه! . في محاولة واضحة لتمرير القيم الجديدة يجري التمسك بأقوال وأمثال من نمط : “بقدَر ما تملك , بتسوى ” , ” بوس إيده وادعي عليها بالكسر ” , ” اللي ببوخذ إمي بقوله: يا عمي “, وغير ذلك من المصطلحات الشبيهة .
نرى اضمحلالا متدرجا لقيَم مثل : الأصالة , المبدئية , الأخلاق العالية , الشهامة , النبل وغيرها من الصفات التي مثّلت عناوين رئيسية للوجود الإنساني في عالمنا العربي لصالح ما يوحي بعكسها …. هذا على صعيد الإجتماع . أما على الصعيد السياسي : فمن يؤمن بتحرير كل أرض فلسطين من النهر إلى البحر يبدو في نظر كثيرين : ” مغامرا ” و “خشبي اللغة”, مثاليا ,غير واقعي , حالما يسبح في الخيال …. وكذلك من يؤمن بالوحدة العربية على المدى الاستراتيجي… وقس على ذلك ! . في كل حقل من مجالات الحياة تجد القيم الأصيلة , والقيم المُكتسبة , الطارئة على مجتمعاتنا . في الثقافة هناك مروجو ثقافة العولمة تحت شعار الحداثة . تجد مثل هذه المظاهر أيضا في المجال الإقتصادي وغيره . في محاولة تفسير هذه الظواهر( أو الشبيهة التي في طريقها إلى التشكل) يتوجب التطرق ولو بشكل مكثف ومختصرإلى بعض المصطلحات التي هي بمثابة القوانين في المجالات المطروحة , وعلى هذا الصعيد نقول :
بداية , فإن الوعي هو انعكاس للواقع . الأخير يتشكل بشكل رئيسي من المعرفة بما يدور في المجتمع من ظواهر : اقتصادية , اجتماعية , سياسية , ثقافية وغيرها . كل هذه الظواهر / المجالات لها نظرياتها المبنية على تعريفات تحاول أن تكون محددة , فالاختلاف حولها كبير وواسع ,لكن هناك سماتا مشتركة لكل واحدة منها وقاسما مشتركا أعظم فيما بينها. هذه الظواهر ليست منفصلة بعضها عن بعض , فهي مرتبطة بشكل جدلي: تؤثر كل منها في الأخرى وتستقبل تأثيرها , لذا فلا فصل بين الثقافي والسياسي .هذا على سبيل المثال وليس الحصر, وإذا كانت مهمة المثقف أن يحلم , فالسياسي هو الذي يقوم بتحقيق الحلم ! هذا ما هو متعارف عليه , لكنه يفتقد إلى الصحة التامة , فمن حق المثقف أن يعمل على تغيير الواقع ولا يقتصر دوره على الحلم فقط . الأمر الأخير يستند إلى مدارس متعددة , منها : الواقعية ( والواقعية الاشتراكية من ضمن الأخيرة! والأدب والفن باعتبارهما شكلين ثقافيين لا بد وأن يخدما القضايا المجتمعية – وفقا لبلزاك وفلوبير ). الواقعية الاشتراكية تربط ما بين المجال الحياتي والالتزام بقضايا العموم وعلى رأسها : الوطنية .
على الصعيد الاقتصادي : في مجتمعاتنا نعيش نمط الإنتاج والعلاقات واقتصاديات السوق, القائمة بهدف : تحقيق أقصى الأرباح على طريق مراكمة رأس المال للأفراد والشركات ولفئة معينة, بغض النظر عن مدى استغلالها للبشر.بالتالي : فإن العامل الاقتصادي له الدور الرئيسي في توجيه الحس المجتمعي ومن ضمنه الثقافي , سلبا أو إيجابا, وفي انتاج الأفكار والوعي المجتمعي ,لأنه ووفقا للعديدين من الفلاسفة : فإن النشاط الاقتصادي هو أصل الحركة الاجتماعية والثقافة . النشاط الإقتصادي وعلاقات الإنتاج ونمطيتها لا بد بالتالي وأن تفرض قيمها , مفاهيمها الجديدة , التي تأخذ طريقها للنمو التدريجي في المجتمع, رغم تضادها مع القيم والمفاهيم التاريخية السائدة , لتشكل نمطية سلوكية جديدة. على الصعيد السياسي : برغم أن السياسة هي ” دراسة السلطة ” وفقا “لهارولد لازول “, أو أنها “دراسة تقسيم الموارد في المجتمع ” وفقا ” لديفيد استون ” , لكن لها تطبيقاتها المختلفة وفهمها المختلف , فمثلا : فإن أرسطو يرجعها تصنيفا إلى العلوم التطبيقية , نظرا لارتباطها بالممارسة العملية. بدورها فإن الماركسيةالاشتراكية تعتبرها ” دراسة للعلاقة بين الطبقات ” , وما يسمى بالواقعية يعتبرها ” فن الممكن “, من هؤلاء : غورباتشوف الذي جاء بشعاري : البيريسترويكا والغلاسنوست ( إعادة البناء والعلنية ) اللذن دمرا الاتحاد السوفياتي وفككاه , كما دول المنظومة الأشتراكية . لذا , فإن للسياسة دور في صياغة المفاهيم والقيم المجتمعية .
المقصود القول : أن القيم المجتمعية المتراكمة تدريجيا عبر عملية تاريخية طويلة , وعبر خصوصية ثقافية وبالتبادل مع الثقافات الأخرى( الأوروبية مثلا : كانط ومن سبقوه ) , وعبر علم الاجتماع ( وفقا لابن خلدون , وأرسطو ومن سبقاه : سقراط وأفلاطون) , وعبر السياسة ,والاقتصاد وعلاقاته : هي حصيلة معرفية قادرة على التشكل وفقا لنمطية العلاقات بين كافة المجالات المختلفة . ليس كل ما يلمع , ذهبا , وليس كل جديد يعتبر مفيدا ! المهم هو معرفة الموائمة بين القديم والجديد ومفاهيم المجتمعات الأخرى في قالب يهدف إلى تعميق القيم المجتمعية الأصيلة , وبالشكل الذي تخدم فيه هذه القيم والمفاهيم كل قضايا المجتمع ومنها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية, وعلى رأسها الوطنية بالطبع , فما يجري من تحريف مقصود لهذه القيم الجميلة يهدف إلى : تسييد ثقافة معينة , على رأس جدول أعمالها : تخريب النسيج الاجتماعي لمجتمعاتنا ولأمتنا العربية وتفكيكها أيضا .
ما يجري يدعو بالفعل إلى الإنذهال ويشكل صدمة حقيقية لعديدين تربوا على القيم الأصيلة والجميلة, وما زالوا يتمسكون بها رغم كل المعيقات والتقييمات والاتهامات , يخفف من وقع ذلك : إدراك أبعاد وأسباب هذه المتغيرات القيمية بأشكالها السلبية للأسف وليس الإيجابية . رغم كل ذلك وكما يقول المثل ” ما زالت – وأضيف : ستظل – الدنيا بخير” , والبقاء للظواهر والقيم الجميلة وليس لمحاولات تحريفها . بالفعل ما أدق وصف الإمام محمد عبده.