مقالات مختارة
حساباتهم وأوهامنا بقلم: بنت الأرض
هل كان الإعلان الأمريكي شبه الصريح عن النيّة في تقسيم العراق مفاجئاً؟ لقد أعلن جيمس بيكر منذ عام 2002 أنهم يريدون إعادة العراق خمسين عاماً إلى الوراء كما أعلن دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع في ذلك الوقت، أنه يريد “كسر أنف العراقيين” أي تحطيم عزّتهم وكرامتهم كما أعلن جورج بوش الأبن أنه يريد إعادة العراق إلى القرن الماضي وكانت الذرائع الواهية صارخة في عدم واقعيتها ومنطقيتها ومع ذلك فإن الولايات المتحدة تجاوزت الأمم المتحدة والشرعة الدولية وقامت بغزو العراق. والسؤال الكبير هو لماذا قامت الولايات المتحدة بغزو العراق؟ والجواب على هذا السؤال بدأ يظهر شيئاً فشيئاً وما زال الزمن يكشف عن أسباب مبيتة وسوف يستمر بفعل ذلك ربما لعقود قادمة. لا شك أن نتائج غزو واحتلال العراق كانت كارثية على العراق والشعب العراقي من قتل للعلماء وتدمير للمؤسسات وتمزيق لنسيجه الاجتماعي وتقاليده الأصليّة وعيشه المشترك الذي ما زال مستمراً منذ ما قبل المسيح عليه السلام. وكانت إشارات أهداف التقسيم واضحة منذ البداية، بل إن المخطط الشامل لتفتيت العالم العربي برمته واضح للعيان. ولكن السبب في عدم وضوحه في أذهان البعض هو أن البعض يحسب النتائج بالأيام والأسابيع والأشهر بينما يحسب الذين يستهدفون وجودنا وقيمنا وهويتنا نتائجهم بالسنوات والعقود. لقد قال رامسفيلد في حينه أننا حين قرّرنا استهداف العراق أنزلنا ملف العراق من مكانه والذي وضعناه في السبعينيات ونفضنا عنه الغبار وأدخلنا عليه بعض التحديثات وأصبح جاهزاً لدينا. لقد أصبح أكيداً اليوم أن مخططاتهم يتمّ تطويرها خلال عقود ويتمّ حساب نتائجها بعد عقود بينما الدول المستهدفة تمارس هواية تصديق الرغبات وسياسات ردود الأفعال والإطمئنان إلى مؤشرات سريعة وخادعة لا تمتّ إلى جوهر الصراع بصلة.
واليوم إحدى الحسابات التي تشكّل عنصراً هاماً في حركة “الربيع العربي” والذي أتفقنا أنه “ربيع إسرائيلي” إحدى أهم حساباتهم وأهدافهم تركّز على تدمير الهوية وتمزيق النسيج الاجتماعي في بلداننا العربية وخلخلة تكوين هذه المجتمعات بحيث يصبح من الصعب أو شبه المستحيل علينا إعادة هذه المجتمعات لهويتها التي راكمتها خلال قرون من الاستقرار وتراكم الخبرات وتوارث الحرف والعادات والتقاليد والأخلاق المجتمعيّة. وخلقوا لدينا أوهاماً أنك من خلال الفايبر والسكايب تستطيع أن تحافظ على أسرة أو تواصل أو مجتمع تُدكُّ به أسافين الفرقة والغربة والوحشة. فكل بلد عربي طاله الإرهاب والحروب المصطنعة خسر خلال سنوات خبرات حرفية توارثها الأبناء عن الآباء والأجداد ونمت وتطوّرت في ظلّ استقرار مجتمعي، كما بدأت المجتمعات شيئاً فشيئاً تفقد جزءاً من عاداتها وثقافتها التكافليّة الاجتماعيّة وبدأت أوهام التواصل تملاً الحياة بدلاً من التواصل الحقيقي الذي لا يغني عنه أسلوب مهما كان متطوراً تقنيّاً وفنيّاً.
وربما يجد البعض في هذا الكلام مبالغة أو خوفاً غير مبرّر ولكني أتحدث عن شكل هذه المجتمعات بعد عقد أو عقدين وليس الآن حيث ما زال البعض يجاهد ويحاول الحفاظ على الإرث الثقافي والمجتمعي والحضاري الذي نعتزّ به. أتحدث عمن وُلِدَ اليوم أو البارحة أو غداً ما الذي سوف يعرفه عن حياة مجتمع عراقي أو سوري أو يمني أو ليبي في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي أو في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين؟ هل سيعرف أحفادنا عن أي قيم نتحدث نحن أم سينظرون إلينا نظرة الغرباء؟ وهل يمكن لعقد أو عقدين من الزمن أن يعيدا تموضع مجتمعاتنا حيث وصلت من تطوير وتطوّر أم أن الخلخلة ستخلق جزراً متناقضة داخل هذه المجتمعات يصعب توحيد فكرها وأهدافها وتوجهاتها بحيث يصبح التقسيم والتفتيت بعد عقد أو عقدين واقعاً مفروضاً لا يمكن لأحد مقاومته؟ في مواجهة حساباتهم هل يمكن أن يتخلّى العرب جميعاً عن أوهامهم وينخرطون بدراسة معمّقة للأسباب والنتائج المتوخاة ويفكرون بحجم الأخطار بناء على تلك النتائج المتوقعة بعد عقود وليس النتائج التي نراها اليوم أو غداً؟
انتهى