مقالات مختارة

تقويم التيارات الرئيسة في الكيان الصهيوني- منير شفيق

 

لعل من علامات بداية الانحدار، أو بداية المسار الانحداري، لوجود الكيان الصهيوني على أرض فلسطين تتمثل بانحسار قيادة حزب العمل وأشباهه من تيارات صهيونية عن قيادة المشروع الصهيوني، وهو المشروع الذي تأسّس وقام واشتدّ ساعده وتوسّع وشنّ حروب التوسّع والعدوان تحت قيادة ذلك الحزب: الغربية النشأة والنزعة والابن البار لمرحلة الاستعمار المباشر والاستيطان العنصري. وقد حاول أن يلبس لبوساً “يسارياً” وهو الأشدّ عنصرية من عنصرية الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، لأن عنصريته حملت سمة اقتلاع شعب من أرضه ووطنه والحلول مكانه بعد مصادرة بيوته وأراضيه ومدنه وقراه. فقد استولى على فلسطين مفروشة ومزروعة وحجرية البنيان.

هذه القيادة الممتدّة من اللوبيات الصهيونية الغربية إلى فلسطين هي التي تفاهمت مع القيادات الغربية الاستعمارية البريطانية والفرنسية ثم الأمريكية ووضعت نفسها في خدمتها لتكريس التجزئة العربية، والهيمنة الاستعمارية الامبريالية على الأقطار العربية من المحيط إلى الخليج، مع تشكيل زنار استراتيجي إقليمي من حولها تمثل بالتحالف مع إيران الشاه وتركيا الأطلسية وأثيوبيا. وذلك فضلاً عن خدمتها للغرب ضدّ الاتحاد السوفياتي والبلدان الاشتراكية.

على أن المشروع الصهيوني لم يقتصر على لعب الدور الوظيفي وإنما استطاع من خلال خدماته واندماجه بالغرب أن يتحوّل إلى لعب دور الشريك وفي بعض المواقع دوراً عظيم التأثير على الإعلام والمؤسسات المالية والعمليات الانتخابية التي تصنع الرؤساء والنواب في كبريات عواصم الغرب. مما جعل دوره فيها أهم من دوره في فلسطين في دعم المشروع الصهيوني عموماً، وفي فلسطين خصوصاً. وقد تمّ ذلك كله بفضل الاستراتيجيات الغربية التي فتحت المجال واسعاً للّوبيات الصهيونية داخل عواصمها لكي تفيد منها خارجها. وهذا ما يفسّر ما وصلته الآن من نفوذ واستفحال في تلك العواصم. ولا سيما بعد أن دخلت السيطرة الرأسمالية الامبريالية الغربية في مرحلة الانحدار وربما الأفول. وقد تدنى مستوى قياداتها ورجالاتها، بشكل مدهش، عما كانت عليه أيام كامبل ولورد جورج وتشرشل وأتلي، أو أيام ديغول وغي موليه وميتران وشيراك(مرحلته الأولى)، أو أيام ولسون، وروزفلت، وترومان، وإيزنهاور.

منذ عشرين عاماً، في الأقل، بدأت معادلة قيادات المشروع الصهيوني في فلسطين تتغيّر عما كانت عليه أيام بن غوريون وغولدا مائير ورابين وبيريز لتنتقل إلى بيغن وشامير وشارون الذين حافظوا على المسار نفسه إلى حد بعيد بالرغم من التحليل السطحي الذي اعتبرهم على يمين حزب العمل، إن كان من الممكن أن يكون هنالك من هو على يمينه بعد الذي فعله في فلسطين حتى التسعينيات.

طبعاً لا يمكن أن يُحْظَر على أحد استخدام مصطلح يمين ويسار في التفريق بين الأحزاب والتيارات الصهيونية. وذلك بالرغم من أنه استخدام تعسّفي هبط على الوضع الصهيوني بمظلة غربية. لأن الواقع الصهيوني يبدأ من أقصى اليمين العنصري الذي أحلّ “شعباً” مكان شعب آخر بعد اقتلاعه. ومن ثم من أقصى اليمين أو اليمين الأقصى، إن جاز التعبير، الذي مثله حزب العمل يبدأ التمييز بينه وبين ما هو على يمينه. فالتمييز المطابق بين الأقصى ومن هو أقصى منه. وهكذا إلى يومنا هذا. وليس بين “يسار” ونقيض على يمينه. فحزب العمل هو في أقصى اليمين من حيث عنصريته وما يحمله من أيديولوجية وتبناه من استراتيجية وسياسات، وما مارسه على الأرض من جرائم وحروب وتوسّع وتهويد.

من هنا يصبح أي تفريق بين يسار ويمين في الكيان الصهيوني ابتداءً من ولادة المشروع الصهيوني وطوال مساره حتى يومنا هذا هو استخدام تعسّفي ومُضلِّ وغير مطابق. فالذين يستخدمون هذا التعسّف سيجدون أنفسهم الآن، في عهد نتنياهو الذي طالما اعتبروه أقصى اليمين، يميّزون بينه وبين من راح يفرزهم الكيان الصهيوني بأنهم على يساره. وذلك لينطبق عليه ما حدث معه هو بالذات عندما اعتُبر على يمين حزب العمل أو حزب أولمرت- ليفي. وذلك من خلال الإيحاء، أو التصريح، بأن حزب العمل وحزب أولمرت- ليفي (سابقاً) على “يساره” بالضرورة. ولهذا من الخطأ استخدام المظلة الغربية في التمييز بين الأحزاب والقوى على أساس منهجية يسار ويمين، ثم يمين وسط ويسار وسط وهكذا.

ومن العجب أن يختلف اثنان بأن “حزب العمل” منذ نشأته وحمله المشروع الصهيوني إلى فلسطين ودوره في معادلة الدول الاستعمارية – الامبريالية، لم يكن في أقصى التطرف العنصري. ومن ثم ليس لأحد يحترم نفسه أن يخلع عليه صفة “يسار” في مقابل الليكود. فالذي يقرّر أين هو ليس مقارنته بالليكود، وإنما قراءة مشروعه وأيديولوجيته واستراتيجيته وممارساته (وتاريخه كله). ولهذا لا يمكن إلاّ أن يكون في أقصى العنصرية وهو قليل عليه ما دام أشدّ عنصرية من الأبارتهايد الجنوب أفريقي.

القراءة الصحيحة للتيارات في الكيان الصهيوني يجب أن تبدأ بمن مثلوا أقصى العنصرية ومعهم وبعدهم يأتي من هو أقصى فأقصى منهم عنصرية. ومن ثم يصبح حتى وصفهم في أقصى اليمين غير دقيق ما داموا في أقصى ألوان العنصرية. لأن عبارة يمين تفرض أو تسمح باستخدام “يسار ووسط“.

ومن ثم إن ما شهده الكيان الصهيوني الآن من بروز لتيارات دينية أشدّ عنصرية من العنصرية الأقصى التي مثلها حزب العمل، ثم مثلها الليكوند، وما راح يلي بعدهما من عنصريات أشدّ ممن قد سبقها، يجب ألاّ تقود إلى اعتبار نتنياهو “يمين” أو “يمين وسط” قياساً مع الذين أحرقوا عائلة دوابشة وراحوا يطالبون باستخدام سياسة الحرق، أو جماعات “تدفيع الثمن” أو “زعران التلال”، أو مع المنادين بنصب المشانق وعلى علو خمسين متراً (مائير اتينغر) أو الحاخامات الذين يهددون بقتل رئيس الكيان الصهيوني- الليكودي رؤوفين ريبلين.

وبهذا نكون أمام أقصى عنصرية فأقصى وليس أمام “يمين ويسار ووسط”. فقانون أفول دولة الكيان الصهيوني هو الانتقال من أقصى التطرف العنصري (حزب العمل فالليكود) إلى ما هو أقصى فأقصى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى