214 مليون دولار ثمن مشاريع لبلدية بيروت: هل هي أولويّة؟ مادونا سمعان
يبدو أن ذيول عملية شراء ستة عقارات من جانب بلدية بيروت لتنفيذ بعض المشاريع، لن تنتهي عمّا قريب، لا سيّما أن كلمة الفصل تعود في النهاية لمحافظ بيروت زياد شبيب، حتى بعد صدور قرار ديوان المحاسبة.
وكانت بلدية بيروت قد أقرّت، في الخامس من أيار الماضي، عملية شراء ستة عقارات من خلال «الاتفاق بالتراضي»، في اجتماع عُقد بحضور كل من وزير الداخلية نهاد المشنوق ومحافظ بيروت زياد شبيب. يومها لم يتمّ التطرّق إلى أسعار الأراضي أو التخمينات، بل أرجئ الموضوع إلى جلسة أخرى، غاب عنها الوزير والمحافظ.
بعدها، وجّه المدّعي العام لدى ديوان المحاسبة القاضي فوزي خميس كتاب «مساءلة» إلى شبيب، كونه رئيس السلطة التنفيذية في بيروت، بالاستناد إلى إخبار مقدّم لدى النيابة العامة التابعة للديوان، حول عدد من النقاط التي تثير علامات اسفتهام، من بينها أسعار العقارات التي تفوق الأسعار المتعارف عليها، لا سيما أن الشراء يتمّ «بالتراضي».
قام شبيب بدوره بتحويل المساءلة إلى حمد كونه «مُخرج» العملية. وردّ على طلب الديوان بكتاب كان قد أرسله حمد إليه حول العمليّة.
العقارات
وفي التفاصيل، أقرّت بلدية بيروت شراء أرض تتوزع على ستة عقارات في أرض جلول (المزرعة عقارياً)، لإنشاء سوق خضار بالمفرّق، بقيمة 35.7 مليون دولار، ومالكة العقار هي «شركة نادكو» المملوكة من آل الحريري.
كما اشترت عقاراً بالقرب من السفارة الكويتية (الشياح عقارياً) لإنشاء سوق خضار بالجملة بقيمة 39.9 مليون دولار، وهي أيضاً مملوكة من ورثة الرئيس السابق رفيق الحريري.
واشترت البلديّة أيضاً خمسة عقارات شُيّد فوق أحدها بناء في الشويفات، بهدف نقل مسلخ بيروت من الكرنتينا إليها، بقيمة 47.1 مليون دولار، تعود إلى شركة «لايت ميتال» المملوكة من مصرف «البحر المتوسّط» وشركة فرنسيّة لآل الحريري حصص فيها.
وهناك أيضا عقار في منطقة الحمرا لآل بوبس قدرّت قيمته بـ41.7 مليون دولار، وآخر في الأشرفية بقيمة 24.2 مليون دولار لآل الجبيلي، وعقاران في المزرعة بقيمة 24.2 مليون دولار عائدان إلى مؤسسة السيّد محمد حسين فضل الله، على ان تحوّل جميعها إلى مرأب للسيّارات. وبذلك سوف تنفق البلدية 214.1 مليون دولار (نحو 123 مليون دولار منها لآل الحريري) لإقامة مشاريع ربّما لا تبدو من الأولويات بالنسبة لكثيرين، لا سيما في ظل المطالبة الدائمة بحلول لأزمات أكثر إلحاحاً، منها أزمة السير ضمن خطّة متكاملة، وتعزيز دور الشرطة البلدية، وزيادة المساحات الخضراء.
وربّما من الأجدى إنفاق المبلغ لاستكمال خطّة الأنفاق والجسور وإشغال النتوءات، أي المساحات الخالية المجاورة للطرق للاستفادة منها في توسيع الطرق، كحلّ متكامل. بالإضافة إلى استملاك ما تيسّر من البيوت التراثية القديمة، وهو ما طالب به النائب وليد جنبلاط رئيس البلدية بلال حمد أخيراً كي لا «تأتي الحركة العقارية والعمرانية على حساب التراثية» و «غبّ الطلب».
مساءلة
طرحت النيابة العامة لدى ديوان المحاسبة أكثر من علامة استفهام على عمليات الشراء تلك. فقد تبيّن أولاً، وفق الكتاب المرسل من خميس إلى شبيب ومنه إلى حمد، أن المجلس البلدي كلّف لجنة التخطيط والأشغال للتفاوض مع مالكي العقارات وعرضها عليه لأخذ القرار المناسب.
لكن اللجنة لم تقم بالمهمة وفق الإخبار بل «تمّ تكليف بعض الخبراء المحلّفين لتخمين العقارات بقرارات صادرة عن بعض أعضاء اللجنة المذكورة من دون مشاركة بقية الأعضاء أو الأخذ برأيهم. كما تمّ إهمال تقارير بعض الخبراء كتقريري الخبيرين جبران عجرم وأنطوان أبو رزق في خصوص العقارين 495 رأس بيروت (الحمرا) و1502 من منطقة الأشرفية».
وبحسب مصادر مطّلعة فإن البلدية كانت قد وضعت إشارات الاستملاك على العقارين منذ زمن، ما أثار حفيظة المالكين لا سيّما الجبيلي، وقد ارتأت استملاكهما فعلياً في الاجتماع الشهير، وطلبت تخمين الخبراء. لكنّ عندما أقرّ الخبيران المذكوران بأسعار العقارين الفعليّة، أهملها أعضاء البلدية المذكورين في الإخبار ولجأوا إلى تخمين يرضيهم. فحدّد سعر المتر المربع في الأشرفية بـ15500 دولار بينما هو فعلياً 9000 دولار وفي الحمرا بـ22000 دولار بينما هو فعلياً 18000 دولار، ويجب ألا يتخطّى بحدّه الأقصى 20000 دولار.
ووجدت النيابة العامة أن التفاوض مع أصحاب العقارات للاتفاق على سعر المتر البيعي «تمّ خلافاً للاصول وفردياً من دون دعوة اللجنة المكلّفة»، وأن « أشخاصاً من غير أعضاء اللجنة المكلّفة قد تولوا إجراء المفاوضات أو المشاركة فيها مع مالكي بعض العقارات الذين تبيّن أن أحدهم، وهو وليد محيي الدين السبع أعين، المفوّض بالتوقيع عن مالكي العقارات الستة في المزرعة، تربطه علاقات عائلية ومصالح مع رئيس المجلس البلدي في بيروت ورئيس اللجنة المكلّفة بلال حمد، وذلك خلافاً لأحكام المادة 43 من قانون البلديات التي تنصّ على أنه: لا يجوز أن يشترك في المناقشة والاقتراع (في جلسات المجلس البلدي) عضو له مصلحة خاصة».
إلى ذلك، توقّف ديوان المحاسبة عند مبدأ شراء أراض من خارج النطاق البلدي لبلدية بيروت، فنبّه في كتابه إلى أنه «بغضّ النظر عن مدى صحّة وواقعية التخمينات والأسعار المتفق عليها مع أصحاب العقارات ذوي الشأن، فإنه يقتضي عملاً بالمبادئ العامة والقوانين والأنظمة المرعية الإجراء أن يصار إلى تنفيذ المشاريع ذات المنفعة العامة ضمن النطاق البلدي وفقاً للأصول التي تقضي باستملاك العقارات المشمولة بقرارات المنفعة العامة وذلك بعد دفع التعويضات المحدّدة من قبل لجان الاستملاك المختصّة»، معتبراً أن «الخروج عن هذه الأصول القانونية المفروضة، عدا كونه يشكّل مخالفة للقوانين والأنظمة، فإن من شأنه أن يلحق الضرر والخسارة بالأموال العمومية من جرّاء الأسعار المبالغ فيها التي قد يتم بها شراء هذه العقارات من أصحاب العلاقة».
ويلمح الديوان إلى العقارات التي أقرّ المجلس البلدي شراءها في كل من الشياح والشويفات والتي تقع خارج نطاق بلدية بيروت. وتفيد مصادر قانونية أنه خارج النطاق البلدي يصار إلى شراء العقارات من خلال عقود بالتراضي بعد مفاوضات بين البائع والشاري، أي في هذه الحالة بلدية بيروت.
أمّا داخل النطاق البلدي فتعمد البلديات عادة إلى الاستملاك، وهو على نوعين: استملاك للمنفعة العامة واستملاك طرق وساحات عامة. وتختلف أصول الاستملاك في كل نوع، إلا أن الجامع المشــترك بينــهما وضع القانون لضوابط تحمي الإدارة والمال العام وتعتبر الطريقة الأساسية لتملك البلديات.
وإذا رغبت البلدية بشراء عقار خارج نطاقها، تبرز إشكالية موافقة البلدية التي يقع العقار ضمن نطاقها على الاستثمار الصناعي على العقار، لأن معاملات الترخيص تبدأ في البلدية حيث العقار، وصولاً إلى المديريات والوزارات المختصّة. وعندها لا تتمتع البلدية، التي تقوم بشراء العقار، بمزايا الشخص العام بل تُعامل كفرد عادي.
لكن، على ما يبدو، لن يكون أمام بلدية بيروت أي عقبات لأن «حزب الله» و «حركة أمل» غير معترضين على ملكيتها لقطعة الأرض في الشياح، علماً أن أحد المطلعين أشار إلى شرائها بمبلغ مرتفع نسبياً حتى من دون معالجة موضوع التعديات عليها، سواء من قبل أصحاب سوق الخضار القائم حالياً أو من قبل بعض الأفراد، في وقت كادت أن تباع بسعر أقلّ مع إزالة التعديات.
كما أنه تمت معالجة اعتراضات «الحزب التقدمي الاشتراكي» على إنشاء المسلخ في الشويفات بقيام البلديّة بمنح العقار الرّقم 5591 في منطقة المزرعة لمصلحة الطائفة الدرزية، علماً أن العقارات المنوي شراؤها في الشويفات تقع في المنطقة الصناعية، وبالقرب من تجّار المواشي، ومسلخ آخر خاص مبني بطرق بيئية وعلمية سليمة.
ضمير حمد «مرتاح»
يؤكد رئيس بلدية بيروت أنه لم يهمل أي تقرير ورد من خبراء محلّفين حول أسعار تلك العقارات، وأن عملية الشراء ستتم وفق أسعار هؤلاء الخبراء، وهي «تأتي استجابة لمسائل إنمائية هامة، منها مواقف للسيارات وسوق للخضار الذي كان وما زال مطلباً ملحّاً لتجار المفرّق وتوسعة سوق الجملة في الشياح. أما إقامة المسلخ في الشويفات فيبدو ضرورة بعد إقفال المسلخ المؤقت لتأهيله من قبل محافظ بيروت».
وحول مساءلة النيابة العامة لدى ديوان المحاسبة عن عمليات الشراء تلك وما يشوبها من شكوك، يؤكد حمد أن «العملية قانونية مئة في المئة وأنها لمصلحة بيروت». وهو يستغرب من المساءلة حول دخول وليد محيي الدين السبع أعين في المفاوضات لافتاً إلى أن صلة المصاهرة التّي تربطه به حصلت منذ وقت قصير «ولكن ما المشكلة إن كان يمثّل بعض المالكين؟».
في المقابل، تؤكد مصادر مقرّبة من ديوان المحاسبة أن الديوان قد يبدي موافقته على شراء عقار دون آخر. بمعنى أن رأيه لن يتناول العملية ككل، لافتاً إلى ان الرأي الأخير سيكون لمحافظ بيروت زياد شبيب، إذ بإمكانه رفض شراء عقار حتى لو وافق ديوان المحاسبة على شرائه. وعندها يتولى المحافظ المفوضات. أما في حال رفض الديوان عملية شراء عقار فيكون رأيه ملزماً.
حتى الساعة، ما يزال الديوان ينظر بتقارير الخبراء، والنتيجة قد تتراوح بين الموافقة الشاملة وصولاً إلى إيقاف عملية الشراء، وحتى ملاحقة أعضاء المجلس المتورطين، إذا تبيّن تورطهم في هدر المال العام.
(السفير)