جريمة حرق الرضيع علي دوابشة والتنسيق الأمني- منير شفيق
كما حدث إثر الجريمة المروّعة بتعذيب الفتى محمد أبو خضير وحرقه من ردود شعبية غاضبة شملت الفلسطينيين والعرب والمسلمين، والرأي العام العالمي وأخذت ترهص باندلاع الانتفاضة الثالثة في الضفة الغربية والقدس، يحدث اليوم إثر الجريمة المرّوعة بحرق الرضيع علي دوابشة واستشهاده وامتداد النار إلى والده ووالدته وشقيقه الصغير وإصابتهم بحروق بليغة تتهدّدهم بالاستشهاد أيضا، يعمّ غضب عارم ملايين الفلسطينيين والعرب والمسلمين والرأي العام العالمي .
وقد أخذت أشكال الرد في الضفة الغربية والقدس تُرهص باندلاع الانتفاضة الثالثة، والتي ستكون الانتفاضة التي ستدحر الاحتلال وتطرد المستوطنين من القدس والضفة، إذا ما تمكنت واتسّعت وحيل دون تدخل سلطة رام الله وأجهزة الأمن وبعض القادة من التدخل لإجهاضها، كما حدث حين تدخلوا وأجهضوا من إرهاصات إنتفاضية ولا سيما إثر استشهاد الفتى محمد أبو خضير وهبّة شعفاط.
وبالفعل هذا ما تقوم به الآن الأجهزة الأمنية وسلطة رام الله وبعض القادة الحريصين على استتباب الأمن والاستقرار في ظل الاحتلال والاستيطان وتهويد القدس واستفحال جرائم المستوطنين. وقد أُعلن عن اجتماعات للجان مشتركة أمنية وسياسية فلسطينية – صهيونية تعمل على مدار الساعة للحيلولة دون تفاقم الوضع (ردود الفعل المختلفة ضد الجريمة)، مما قد يصل إلى الانتفاضة الشاملة.
وهي الرد الفعال والوحيد الحاسم ضد تفاقم الجرائم اليومية التي ترتكب ضد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس. وقد أُحْصيت خلال الإحدى عشرة سنة الماضية بأحد عشر ألف جريمة. أي بمعدل ألف جريمة كل عام.
هذا الرقم بما يتضمنه من شهداء وجرحى ما كان ليحصل بعضه أو جزء منه لو اندلعت انتفاضة شاملة لبضعة أشهر لتنتهي بإجبار جيش الاحتلال بـ”فك الارتباط” أو “إعادة الانتشار” مندحرا إلى ما وراء خطوط الرابع من حزيران 1967، وبلا قيد أو شرط، تماماً كما حدث حين اندحر من جنوبي لبنان عام 2000، وقطاع غزة عام 2005.
ولكن الرئيس محمود عباس لم يقتنع حتى الآن أن الاحتلال اندحر من جنوب لبنان بلا قيد أو شرط، ولم يقتنع أنه فكك مستوطناته من قطاع غزة ورحل بجيشه منه، وبلا قيد أو شرط. وقد مارس السيد محمود عباس ضغوطاً هائلة ليقنعه بفك الارتباط من قطاع غزة من خلال اتفاقية تُعقد معه، وَلْيُضمنها ما شاء من شروط. ولم يقبل شارون بذلك لأن من الأسهل عليه والأشد “مبدئية صهيونية” أن يفك الارتباط بلا اتفاق من أن يعقد اتفاقاً بالانسحاب من قطاع غزة. وهو جزء كما يزعم من “أرض إسرائيل“.
وبالمناسبة يذكر محمود عباس جيدا كيف أن رابين وبيريز أيضا أصرّا على عدم تضمين اتفاق أوسلو كلمة “انسحاب”. وقد أصرّا على عبارة “إعادة الانتشار”، وللسبب نفسه الذي حمله شارون بالنسبة إلى رحيل الاحتلال عن قطاع غزة وتفكيك المستوطنات.
ثمة تصريح لشارون يقول كيف أستطيع أن أُثبت أن يافا وحيفا أرضاً لإسرائيل إذا اعتبرتُ أن قطاع غزة أرضاً فلسطينية في اتفاق؟ ولهذا آثر “فك الارتباط” وبلا قيد أو شرط (غير الوعيد بأنه سيعود) على اتفاق يتضمن انسحاباً نهائياً أو اعترافاً بأن قطاع غزة أرض فلسطينية، وليس جزءا من “أرض إسرائيل“.
علما أن القبول بالاندحار لا يكون إلاّ عندما يصبح الاحتلال مكلفاً والتراجع “أهون الشرّين“.
لهذا عندما تضع الانتفاضة القادمة هدف دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات وتحرير القدس (وإطلاق الأسرى)، وبلا قيد أو شرط، تكون قد وضعت هدفاً قابلاً للتحقيق ولا يصبح قبول أية مساومة عليه عبر ضغوط أمريكية وغربية وأخرى متنوعة أو مناورات للتراجع إلى ما وراء الجدار مثلا.
طبعا، هذا بُعدٌ واحد عندما يُقال أن الانتفاضة الثالثة قادرة على الانتصار ودحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات وتحرير القدس بلا قيد أو شرط. أما البعد الآخر والأهم إنما هو تقدير الموقف بالنسبة إلى المأزق الذي يعانيه نتنياهو وحكومته والكيان الصهيوني في المرحلة الراهنة التي لا تتسّم بما حدث من تغيّر كبير في ميزان القوى العالمي والإقليمي والعربي في غير مصلحة السيطرة الأمريكية -الأوروبية – الصهيونية فحسب وإنما أيضا أخذا في الاعتبار لما يعانيه نتنياهو من عزلة من جانب الراي العام الغربي الذي اعتمد الكيان الصهيوني على دعمه وتعاطفه منذ انطلاقة مشروعه لاغتصاب فلسطين.
وقد أصبح ذلك ملموسا من خلال عدة وقائع ومناسبات، ثم ما يواجهه من إرباكات في علاقاته بإدارة أوباما والحكومات الأوروبية. ثم أضف هزيمة الجيش الصهيوني المروّعة أمام المقاومة والصمود الشعبي في حرب 2014 على قطاع غزة. ولهذا سيصبح نتنياهو ضعيفاً وغير قادر على احتمال ضغوط انتفاضة وما ستولّده من ردود أفعال.
أما من جهة أخرى فسوف يخطئ من يظن أن العرب والمسلمين، وبالرغم من انشغالاتهم وانقساماتهم وما يسود من صراعات وفتن، لن يقفوا إلى جانب انتفاضة فلسطينية ثالثة تشتبك لأسابيع وأشهر مع الكيان الصهيوني وتُصمّم على الانتصار، ولا تتوقف تحت ضغوط السلطة أو أيّة ضغوط أو مواقف انهزامية بل أن انتفاضة متواصلة ستسهم في تصحيح البوصلة لا سيما حين تكون القدس والمسجد الأثصى في مركزها.
من هنا يستطيع كل من يأخذه الغضب على جريمة حرق الرضيع علي دوابشة وما سبقه خلال الأسابيع الماضية وما تلاه حتى اليوم من استشهاد ومواجهات ومصادمات أن يدرك كم هي الإساءة الكارثية الآتية من التنسيق الأمني بين سلطة رام الله والاحتلال كما الآتية من المواقف السياسية التي تريد أن تهرب من المواجهة الحقيقية والمنتصرة والانتفاضة بوحدة فلسطينية، إلى محكمة الجرائم الدولية أو إلى بيانات الاستنكار وإلى كل ما من شأنه أن يسكن الغضب الشعبي واندفاعه نحو المواجهات مع المستوطنين وقوات الاحتلال وصولاً إلى الانتفاضة والمقاومة اللتين لهما القول الفصل.