متى يحين أوان المحاسبة والفعل؟!.
فاطمة طفيلي
تكاد مشاعر الغضب والنقمة حيال السائد من أوضاع سياسية وأمنية ومعيشية توحّد اللبنانيين نظريا، ولا سيما انها الجامع المشترك، الذي قد يختلفون على توصيفه وتحديد أسبابه، دون أن يتمكنوا من إنكار مفاعيله وسطوته التي تهدد حياتهم ومصائرهم، ومع ذلك ما تزال عاجزة عن دفعهم لمغادرة خانة التعبير النظري عن التعب والقرف وانعدام القدرة على الاحتمال والمتابعة مع بلوغ الأمور الدرك الاسفل من التردي والاستخفاف بحياتهم وأمنهم وصحتهم وبكل ما يتعلق بيومياتهم كبشر يستحقون الحياة، خلاف ما يتعرضون له من مهانة وانتهاك فاضح وفجّ لانسانيتهم.
لم تظهر أي بوادر تعزز امال التغيير رغم كل هذا الكم الهائل من المشاكل، المفتعلة بمعظمها، لغايات ومنافع اقل ما يقال فيها انها دنيئة ووقحة، لفئة اعتادت الاعتياش على آلام المواطن ومعاناته المتعاظمة والشاملة، ضاربة بعرض الحائط كل الشرائع والقوانين، وما يوازيها من اعراف ومسلمات، لا يعنيها الا الاستمرار بتكديس الثروات والمنافع. ولم يستطع كم الازمات المتوالدة ان يدفع أحدا الى التفكير جديا بإطلاق حركة مدروسة تؤسس لثورة على التقاليد المتوارثة التي تنزّه الحاكم والرئيس ومن هم في سدة القرار عن المساءلة والمحاسبة، وتضع اللبنة الاساس للتغيير الفعلي في العقليات والممارسات. وليفهم المسؤولون، ولو لمرة ان عليهم ان يستحقوا مناصبهم ومراكزهم المكتسبة بالعمل الجدي وابتكار الخطط والمشاريع البناءة والعمل النزيه لخدمة الوطن والمواطن، وانها ليست جوائز ترضية يتوارثونها أبا عن جد، وأن المحاسبة والعزل هما الرد الطبيعي على أي تقصير أو شبهة.
مع كل أزمة يتعالى الصراخ والضجيج، الى أن يتوافق المعنيون على تقطيع الامور بحلول آنية تسكّن الآلام ولا تعالج المرض. حلول تحجب الازمة دون ان تمس مصالحهم، ليعاودا الانقضاض مجددا مع افتعال مشاكل تُنسي المواطن ما سبق، وتتركه متخبطا في ما افتعلوه من مستجدات، يُخيل إليه أنها أعظم وأدهى. وفيما ينشغل المواطن باجتراح الحلول الموضعية، يرتاحون هم الى تقاسم المنافع والمكتسبات ويخططون بكل صفاقة للقادم الأدهى.
حكاية تتكرر مع نظام قائم على المحاصصة وتقاسم المنافع، والمواطن غارق في أزماته لا يعرف له مفرا سوى العضّ على الجراح بمرارة أو الهجرة دون آسف على شيء، في زمن يتحول المسؤول الى قديس بعد مغادرته سدة المسؤولية، وينسى بسرعة ما اقترفته يداه، وما افتعله من أزمات ظاهرها المصلحة العامة، وحقيقتها التأسيس لإرث عائلي قائم على اثنتين لا ثالث لهما المكانة والثروة، وفق ما درجت عليه العادة، فقلة قليلة هم القادة الفعليون في تاريخ هذا الوطن المعذّب. هكذا يتحول المسؤول بعد تحقيق المراد الى حكيم عصره، لا تعصى عليه مشكلة ولا يفوته حل.
هل يُعقل، وبعدما بلغت الأزمات حدا لا يطاق، ان نبقى خانعين منتظرين نتصارع في ما بيننا تحت عناوين المذهب والطائفة والمنطقة والانتماء الحزبي والسياسي، مؤسسين لمزيد من الاثمان المكلفة التي يدفعها المواطن حصرا؟.
ألم يكفنا أننا نتحول الى مجرد أرقام مضافة على لوائح القتل العبثي العابر للمناطق والطوائف والانتماءات، ألا يعنينا بشيء ما بلغناه من فلتان أمني وأخلاقي خطير، وما من مجير يضع حدا لمعاناتنا اليومية عبر ممارسة مسؤولياته بالمحاسبة وتطبيق القوانين؟ الم نشبع بعد من مشاهد العنف الطاغية، التي تجعلنا نتحول شيئا فشيئا الى وحوش بشرية غير عاقلة، تحركها الغزائز الحيوانية؟.
أهم انجازاتنا في بلد الارز والطبيعة الغناء وقطعة السماء على الأرض، وما نتغنى به على أنه هبة الخالق الفريدة والمميزة عن كل بقاع الأرض، اننا حولناه الى بؤرة فساد، تسودها الذئاب المتصارعة على نهش ما تبقى، وفي أحسن الاحوال الى مكب للنفايات نختنق بروائحة العابقة في كل مكان، وتقتلنا سمومه المتصاعدة جهلا وقصورا، فيما الحلول العلمية جاهزة ومعروضة من خبراء ومتخصصين، وفيها ما يتيح الإفادة من هذا الملف وتحويله الى مشروع استثماري مربح على أكثر من صعيد، بدلا من تحويله الى موضوع فتنوي طائفي لا ينتج إلا مزيدا من الانقسام المؤسس لمشاريع حروب، نجهد في خطاباتنا المعلنة على التأكيد أننا متفقون على مغادرتها بلا عودة، فأين نحن من ذلك، وماذا فعلنا لتطبيقه؟!.
أليس معيبا ان يقترن اسم لبنان بصورة وحيدة تتناقلها صحف العالم، كـ “مزبلة” تحجب كل ما سجله في تاريخه من حضارة وعلم وإشعاع، وهو من صدر الحرف والمعرفة، وقدم للعالم وما يزال العقول والادمغة والمبدعين، وفي سجله انصع انتصار على العدو المغتصب لفلسطين والتربص الدائم بالمنطقة واهلها؟!.
أليس مخزيا ان يصبح اللبناني، الذي ساهم في ابتكار الحرف وسيلة للتواصل بين البشر عاجزا عن إيجاد لغة للتفاهم مع أخيه في المواطنية، ومن شارك في اختراع الكهرباء يكاد يضيع في العتمة المطلقة ماديا ومعنويا؟. اليس معيبا ان يغرق البلد الذي سُمي بمطبعة الشرق في ليل الجهل المطبق، وأن تفتقر عاصمته ام الشرائع الى ابسط قوانين العدالة الوانسانية؟!.
أكثر ما نحتاجه اليوم هو وقفة جادة مع الضمائر مسؤولين ومواطنين، إذ لا تنقصا الكفاءات ولا القدرات ولم نعدم بعد الوسائل المجدية، شرط ان نبادر الى مغادرة خانة السلبية باتجاه المبادرات الفاعلة المؤسسة للوحد والتغيير الحقيقي. فهل نفعل؟ّ!…