«انتفاضة الاقليم»: النفايات تُفرز رأياً عاماً ضحى شمس
يكاد المرء حين يعود من إقليم الخروب الذي قصده مستطلعاً أحوال الناس على خلفية «ثورة» النفايات، لا يجد ما يكتبه خوفاً من قانون المطبوعات. أغلب الشتائم التي كيلت للجهات السياسية التي يحسب الإقليم عليها تقليدياً، من النوع الذي قد يسبب أحكاماً قضائية لو نشر. لكن، بغض النظر عن الشتائم، وطاقتها التعبيرية المبرّرة أحياناً، فإن المراقب للحراك الذي حصل، وكيفية اتحاد الناس هناك على اختلافهم، لمرة، بأعجوبة المصلحة المشتركة، سيجد أن حراك الإقليم قدم نموذجاً يحتذى، وذكّر «المجتمع المدني» بأن له قوة لو شاء، تخيف السلطة الوقحة، اسمها: الرأي العام
غضب عميق ينضح من كلام الناس في برجا وسبلين وكترمايا. غضب ساطع، فعلاً، حقيقي وصادق. الحزن الذي يرافق هذا الغضب كالظل، هو ما يجعله مقنعاً وقوياً. حزن خيبة الأمل، ومن استنفد عمره في الرغبة بتصديق قياداته، متمنياً بينه وبين نفسه أن يحصل ولو على الحد الأدنى من حقوقه من دون صدام، ولكنه فهم، متأخراً، أن الدولة لا تولد من التراضي مع مافيات الطوائف المموّهة بأشكال كثيرة، بل يجب أن يجبرها أحد ما على ذلك.
ولذلك، إن التحرك الذي قادته برجا، لم يبدأ بتنظيم نفسه في 17 تموز الماضي حين توقف جمع النفايات، بل منذ 7 أشهر. تحديداً، بعد التظاهرة الشهيرة التي جرت أيامها. التحرك الذي نجح بإحراج «القيادات» قدم نموذجاً يحتذى، أخاف زعيماً مثل وليد جنبلاط، فأعلن انسحابه من «الاستثمار بالنفايات»، مع ولديه تيمور وأصلان، حتى لا يخسر بالسياسة، كما قال. كأن السياسة والتجارة توأمان عند «الزعيم النائب» الذي يفترض أنه يعرف أن التجارة والسياسة حين يجتمعان سيكون الشيطان ثالثهما، فكيف إن كان ثالثهما منذ عقود؟ لا بل قد ولد شياطين صغيرة كثيرة «تتنطط» بين الكسارات والمعامل الملوثة للبيئة والمزابل.
هكذا، تضامن أطراف السلطة أيضاً من جهتهم لتعطيل «عدوى برجا»، فبدأ نشر شائعات فتنوية، تارة عن «شيعة الجية»، وأخرى عن «سرايا المقاومة»، وعممت آراء فايسبوكية «متخلفة» لأشخاص محسوبين على المقاومة، لكنها لا تعبّر بتاتاً عن رأي هذه الأخيرة. إلا أن الشبيبة الواعية لمآرب المتضررين تصدت للشائعات بمزيد من الاتحاد. هكذا، حرص نائب رئيس بلدية الجية المحسوب على حزب الله، ورئيسها، على إعلان «مساندة برجا» في تحركها حتى النهاية، لكون أهالي الجية (شيعة ومسيحيين) متضررين بدورهم ومهددين بمطمر في نطاقهم البلدي، لذا فقد شاركوا بفعالية في قطع الطريق التي احتج عليها بعض الجهابذة معتبرين أنها موجهة ضد… المقاومة!
التحرك الذي قادته برجا لم يكن عفوياً، كما أوحى الغضب الذي رافقه، بل كان متحسباً له، بناءً على توقع الأهالي لتصرفات الطبقة السياسية التي تحكمهم. لكنه كان مليئاً بالمفاجآت ذات الدلالات العميقة: «مستقبلي» يسحب سلاحه على رئيسه الذي يحاول ثنيه عن الاعتصام مع شباب المنطقة، رئيس بلدية برجا، «معبود الجماهير» اليوم، والمحسوب على تيار المستقبل، يردّ على تليفون «الشيخ سعد» الذي طلب إليه أن يقنع الشباب بالكف عن قطع الطريق: «أنا مع أهلي لأن الحق معهم». أما «اعتذار» بهية الحريري من العاصمة بيروت، فقد أغضب أهل المنطقة كثيراً. فتدفقت الشتائم من العيار الثقيل بحقها. أقل ما قيل ويمكن أن يكتب «تروح تحط زبالة بيروت بقصرها». مشاعر طبقية اخترقت جدار التضامن المذهبي، ولم يعف منها سعد الحريري ولا وليد جنبلاط ولا علاء الدين ترو ولا محمد «تكرموا»، أي النائب محمد الحجار، كما يلقبه أهالي برجا بسخرية، لأنه يعد ولا يفعل.
«صرلنا هون من أول ما وقّفت سوكلين لمّ الزبالة» يقول سعد، أحد الشباب المعتصمين في خيمة أمام معمل سبلين. كنا وصلنا إليهم عند الظهر والشمس مرتفعة والحر قاتل. البعض كان قد تمدد ليأخذ قسطاً من الراحة، فيما كان البقية يراقبون بعيون الصقر الشاحنات الوافدة إلى المعمل، لئلا تكون محملة نفايات.
«كترمايا هي الحكومة» كتبوا على جدار مقابل. تغسل كترمايا صورتها في الإعلام، بعض التوجس من «الأخبار» بداية، وشخص بين المعتصمين حاول تخويف «الشبيبة» بكلام من نوع «ما بدنا نحكي»، لكنه لم يفلح في ثنيهم عن التحدث لجهة لا تعتبر «صديقة»، أو ربما لأنها معتبرة غير صديقة. واضح أن «قلب الطاولات» هو شعار المرحلة. تكتشف بين المعتصمين أعضاءً في بلديات كترمايا وسبلين وبرجا، تكتشف أسرى محررين من سجون عسقلان وعتليت في فلسطين المحتلة (صفقة تبادل أحمد جبريل) ومن معتقل أنصار مثل فهيم أبو علي ابن كترمايا، المعتصم هنا.
«واضحة… عرضت عليهم تركيا تشتري النفايات وتعطينا كهربا ما قبلوا. ليه؟ لأنو ما بيعود فيهم يسرقوا». يقول زياد أحد المعتصمين. ويضيف: «الزعما المتفقين ع المطمر ومترأسين أحزاب هني العناصر الرافعة لهاي القصة. يعني «ذوقاً» بيكفينا معمل الترابة اللي عم يجيب أمراض، كمان بدهم يجيبولنا مطمر؟ لا والله». يقاطعه سعد: «كلنا بلد واحدة، نحنا مش طوائفية، بس بيكفينا سموم هالمعمل، يعني بدهم يجيبولنا هم فوق هم؟». يتحمس حسين: «خليهم يفتحولكن الداخون تتشوفوا كيف بيصير الليل… غطيطة». حسناً، لكنكم ستعودون لانتخاب من جاؤوكم بالمطامر، اليس كذلك؟ يجيب زياد: «في شغلة كتير مهمة، صحيح، كل العالم موحدة اليوم، بس بكرة بالانتخابات، نفس العالم بيرجعوا بينتخبوا. هيدا شي مش منيح. مفروض العالم بقى توعى. وما بقى تنتخب الزعما الراكضين ورا السرقة والنهب. لا كمان بيورثونا توريث، يعني متل وليد قال سلم ابنو… نحنا معتبرينا بالنظام زبالة». يقول سعد: «يا اختي جوعوا الناس وصاروا يمشوهم ورا الليرة، ليش بدنا نتخبى ورا اصبعنا؟ الغلط غلطنا».
يتحمس زياد: «نحنا خارج الأحزاب، مصلحتنا المشتركة خلتنا نتجاوزهم. إذا الزعيم عم يشتغل بضمير ما حدا بيقللو تلت التلاتة اديش. بس اذا بدو يفتحلي مطمر، بقللو ايه روح (..) اطمرهن بقصرك». يضيف: «عدد الأصوات اللي طلعوا النواب هني ذاتن المعتصمين. يعني متل ما طلعناهم مننزلهم».
شيئاً فشيئاً بدأوا يدلون بأسمائهم كاملة. يقول جهاد شعبان (عضو بلدية سبلين): «قال بدهم يحطوا الزبالة بعين دارة؟ ايه… روح حطها بالمختارة»! تعجب القافية الشباب، «منيحة»، يقولون مبتسمين.
نظافة برجا
أول ما يلفتك في برجا نظافة الشوارع. هنا لا أكوام زبالة تتفاعل في الشمس، لا روائح. يدلنا صديق على واد اصطناعي من فعل الكسارات «هون قال بدهن يعملوا المطمر. ايه ما فشر».
في «معرض العميد للسيراميك»، يقول صاحبه إن أزمة النفايات أعادت فرز الرأي العام سياسياً.
«المشروع معروف لمين: حريري/جنبلاط، منشان هيك أكثرية الموجودين في هذا التحرك هم من جمهور هذين الشخصين. لا بل من قياداتهم. يعني الشارع ما بقى عم يرد على الحريري ولا ع جنبلاط. نحنا بلجنة البلدية اللي بتضم كل الأحزاب الموجودة ببرجا من الجماعة للشيوعي للمستقبل الخ… همنا الأول: ممنوع يكون في عنا مطمر. يعني المنطقة أصلاً موبوءة بمعمل الترابة وشركة الكهربا، بالكسارات، بمجابل الباطون… بيكفي». ويضيف: «إجمالاً في وعي عند أهل برجا، يعني شافوا انو لما وعد أحمد الحريري بتحويل برجا إلى جنة، طلع قصدو بدو يحولها لمزبلة. لذلك الناس طلعت عن قياداتها. كل اللي نزل وقطع طريق نزل عشان صحتو وصحة ولادو». يقول أحد الشباب الواقفين: «الانتخابات البلدية الجايي بيقولولك نشأت حمية ولايحة من الشيوعية والجماعة… لأنو هدول اللي اشتغلوا بإخلاص لبرجا».
في مكان قريب، تجلس الحاجة انتصار مع بناتها أمام باحة منزلها المحاذية للطريق والقريبة من كسارة، يحضرون بعض المونة البيتية. تقول ضاحكة: «اكتبيلو للسيد وليد، كم طساسة للربو صرت مستعملة، اكتبيلو والله لو فيني انزل ليهم بالمظاهرات لولعتهم بالكاز. هالعك… بس عندي ربو من ورا الترابة». يأتيها المدد من لطيفة، كنّتها «وحياتك مدام بمسح بترجع الغبرة… الله لا يوفقهم. كأنك راشة الترابة ع البيت. يعني والقرآن كان عرس خيي ع قبالكن، قلت بمسح الأرض آخر مرة، شو بدي قلّك؟ كان فيكي تلقطي الترابة تلقيط بالإيد مش بالمكنسة».
تقول انتصار: «ابني مسافر مش راضي يجي من ورا الترابة، كيف إذا جابولنا مطمر؟» تحبك النكتة مع الأخت: «ايه بيبطل يحكينا ع السكايب». يضحك الجميع ما عدا العجوز في الزاوية، الذي كان يتفرس بنا بنظاراته «كعب الفنجان» وهو يهشّ الذباب من حين لآخر عن أنفه. نسأله رأيه فيقول: «إذا الزعيم ضاغط علينا شو منعمل». تدوّي شتيمة «للزعيم» من العيار الثقيل، فيصيح بزوجته التي شتمت: «أنا مع الزعيم للموت». فتجيبه بغضب: «ما هوي آخذك ع الموت». ثم تصيح بنا غاضبة: «اللي عنا نواب العار سميناهم، ما حدا طل. كلو هرب… محمد تكرموا، وعلاء…» نستوقفها: من تقصد بمحمد تكرموا؟ تضحك وتجيب: «النايب محمد الحجار مسماينو هيك لانو كل ما رحنا لعندو بيقول تكرموا وما بيعمل شي».
«شو هالسمار الحلو؟» يبادر مرافقنا ممازحاً مجموعة من الشبان جلسوا أمام دكان مقفل. يجيبه أحدهم: «هيدا برونزاج شمس الحرية، والبحة (الصوت) من المسيلة للدموع، وحمامات المياه العمومية» يقصد خلال التظاهرات الأخيرة. يبدو أن الشباب كانوا ناشطين. يقول خالد (اسم مستعار): «لا سياسي ولا طائفي. هيدا تحرك نضيف، بدليل ما انرفع علم ولا شعار إلا برجا». لكن لم نفي السياسة؟ يقول زميله الذي رفض البوح باسمه «أديش الشيوعية والجماعة بعاد عن بعضهم ايديولوجياً؟ كنا تحت يد واحدة» ثم يدركه المزاح فيقول: «حتى داعش كانت مشاركة». يعود خالد إلى الحديث: «نحنا اليوم منشوف الفارق بين برجا وبين بيروت: شوفي النظافة بشوارعنا بدهم يجيبولونا مطمر. عنا معامل الكهربا بس ما عنا كهربا، وببيروت ما في معمل كهربا بس الكهربا ع طول. شوفي طرقات بيروت كيف مزفتة وكيف طرقاتنا محفرة، معامل الزفت والترابة عنا… ورسالة لبهية (الحريري) اللي بعتتلنا الفهود: كل ديك ع مزبلتو صياح، بس ببرجا في ديوك وما في مزابل».
يضيف بسخرية ومرارة: «يا بهية، من ورا الأمراض اللي جابتلنا اياها مشاريعكم معليش بدي قولها: ح يصيروا نسوان المنطقة كلهن ببزّ (ثدي) واحد» بسبب انتشار سرطان الثدي. «أما جنبلاط اللي قال اليوم إنو خايف ع مستقبلو، منقللو: إلى أين؟ نحنا بطلنا نوثق فيك». بدا أن الانفعال يتصاعد ليلامس الغضب «بحرب الجبل قال كلمة: إذا سقطت برجا ستسقط المختارة. هلق منقللو: برجا ستُسقط المختارة. برجا قدمت لك الشهداء وأنت تقدم لها السموم. برجا ستغير المعادلة. أما بهية اللي قالت إنو نحنا عملنا حروب لبيروت، منقللها: وين كنتي لما أهل برجا حموا بيروت سنة 82. أما بالنسبة إلى فقرا بيروت، فبحب قلّك: فقرا بيروت يا ست بهية من زمان صاروا عنا هون. لأنكم مع السوليدير شحطتوهم من بيروت». يقاطعه صديقه بحماسة: «وبدنا نكذب تلفزيون المستقبل اللي قال انو أهالي برجا بيشكروا سعد. ايه لا… كذب. نحنا أهالي برجا هتفنا بالمظاهرة: يا سعد ويا عر.. هاي برجا مش فرنسا».
تقرير | انقلابات تلفزيونية
في غالبية البيوت والدكاكين التي دخلناها في برجا، كانت التلفزيونات، كما في أيام المونديال، تذيع باستمرار المؤتمرات الصحافية والتصريحات المتعلقة بموضوع الساعة. لكن «الغريب» أن المحطة المختارة للمتابعة لم تكن إلا… قناة «ام تي في»! أما لماذا «ام تي في»؟ فلأنهم كما قال البعض «حلبوا معنا صافي. يعني «الجديد» شحطناهم من هون، خلص هدول متل جنبلاط ما بيتأمنلو. والشباب لما كان مذيع ام تي في هون طوزوه». نستفهم عن الكلمة؟ فيقول «يعني حملوه الشباب وصاروا ينططوه بالهوا من قفاه» يقول الشاب الصغير ضاحكاً. أما «الميادين» فقد «شحطناهم بالأول لأنو في واحد اسمو عماد بزي كتب شي ضدنا وحط تحت اسمو الميادين. بعدين اجانا توضيح من القناة انو ما الو علاقة فيهم لا من قريب ولا من بعيد». حسناً وماذا عن «المستقبل»؟ «هيدا زعبناه من الأول وقلنالو اذا بترجع منكسرلك اجريك». حسناً، وماذا عن «الأخبار»؟ يقول «كبير القعدة»: «هلق الأخبار بالأول مش محسوبة معنا. بس والله بيّضوها وقت اللي عملوا غلاف انو «برجا تُسقط جنبلاط». يعلق أحدهم: «ايه لكن شو؟ الكلام المزبوط شو بينقال عنو».
(الأخبار)