صفقة النفايات: فتش عن «الإنــماء والإعمار» بسام القنطار
تحركت النيابة العامة المالية وكلفت لجنة فنية للتحقيق في عقود سوكلين وأخواتها! الخطوة المتأخرة عاماً ونصف، تفتح الباب واسعاً أمام التوسع في أعمال التحقيق من قبل هيئات الرقابة والتفتيش للكشف عن فضيحة لا بل فضائح مدوية لطريقة إدارة مجلس الانماء والاعمار ملف النفايات طيلة ١٧ عاماً
مهمة صعبة تنتظر اللجنة الفنية التي كلفها النائب العام المالي القاضي علي إبراهيم للتحقيق في ملف إدارة النفايات الصلبة لبيروت وجبل لبنان، من خلال العقود الموقّعة بين مجلس الانماء والاعمار ومجموعة من الشركات التي تتولى الكنس والجمع والنقل والمعالجة والطمر والاشراف والمراقبة والتدقيق المالي وهي: مجموعة افيردا (سوكلين، سوكومي، سكر للهندسة) والاستشاري لاسيكو، والمدقق المالي دي جي جونز، والمدقق المالي PricewaterhouseCoopers الذي تولى أعمال التدقيق حتى عام ٢٠٠٨.
يقول القاضي إبراهيم إن مهمة هذه اللجنة الفنية تتمثل في تعيين خبراء للتدقيق في حسابات الشركة، «والتحقيق في ما إذا كان هناك هدر للمال العام أو لا، أو إذا كان هناك تهرب ضريبي، وغيرها من الإجراءات الفنية التي تتخذ في حالات كهذه»، لافتاً إلى استكمال التحقيقات في مسارها الذي «سلك» منذ نحو سنة ونصف.
الاستحقاق الأبرز الذي ينتظر هذه اللجنة قدرتها على الوصول الى جميع العقود وملاحقها الكثيرة، وطريقة تركيب الاسعار ومراجعاتها السنوية، وطريقة اقتطاع الاموال من حساب البلديات نفسها، والشبهات التي تحيط بمجلس الانماء والاعمار المشرف على التنفيذ، الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمصالح الشركات وبالسياسيين الذين غطّوا مخالفاته قرابة عقدين من الزمن.
يؤكد مصدر متابع لمسار عقود النفايات أن من العبث التحقيق بخلفية مالية ــ محاسبية للتوصل الى الخلل المتعلق بهذه العقود، مبدياً تشاؤمه من أن اللجنة الفنية، إذا سمح لها بإتمام مهمتها، فسوف تجد قيوداً مالية سليمة لا يشوبها خلل يستدعي من النائب العام تكوين ملف جنائي ــ مالي يستوجب السير بدعوى قضائية. ويلفت المصدر إلى أن العودة الى ديوان المحاسبة والتفتيش المركزي لتبيان أوجه تقصير إدارة مجلس الانماء والاعمار في متابعة هذه العقود وضمان حسن تنفيذها، هو المدخل الذي يمكن من خلاله الوصول الى الحقيقة، وتبيان الاسباب التي أدت إلى مخالفة العقود الموقعة بين الادارة الرسمية (مجلس الانماء والاعمار) وشركات القطاع الخاص (سوكلين وأخواتها)، ولا بد من توسيع التحقيق ليشمل شركات مثل IBC التي تدير معمل صيدا للمعالجة، وصولاً الى شركة لافاجيت ــ باتكو في طرابلس، وشركتي الأمانة العربية وتوكلين في عكار، وشركة الجنوب للخدمات والمقاولات في النبطية، وشركة سانيتك في زحلة.
بالعودة الى عقود سوكلين وسوكومي، يتبين من الملحق رقم (١) للعقد رقم ٢٣٧٨، العائد لتشغيل وصيانة مراكز معالجة النفايات المنزلية الصلبة لبيروت وجبل لبنان، أنه استند الى قرار مجلس إدارة مجلس الانماء والاعمار بتاريخ ٢٥ تشرين الاول ٢٠٠٧.
وينص هذا الملحق على تنظيم آلية اعتماد أسعار للكميات الاضافية التي تفوق ٧٣٠ الف طن سنوياً (أي قرابة ٤٠٠ الف طن). ويتبين من الملحق أن كميات النفايات المنزلية الواردة الى مراكز المعالجة (العمروسية والكرنتينا) قد فاقت ٧٣٠ ألف طن ابتداءً من عام ٢٠٠٢، أي بعد مرور خمس سنوات على توقيع العقد، وأن شركة سوكومي قامت، وعلى نفقتها، بتجهيز معدات إضافية لتكون قادرة على استيعاب الكميات الاضافية، بعد أن كانت قدرة هذه المراكز لا تتجاوز ٢٠٠٠ طن يومياً، في حين يصلها قرابة ٣٥٠٠ طن يومياً. وفي مقابل «كرم» سوكومي بتأمين معدات الفرز والكبس والتغليف، تمهيداً للترحيل الى مطمر الناعمة ــ عين درافيل بدون معالجة، يتضمن الملحق في مقدمته فقرة بالغة الخطورة تقول «إنه تعذر على الادارة (مجلس الانماء والاعمار) تأمين الاراضي اللازمة لإقامة مراكز فرز وتسبيخ إضافية، بحسب ما تنص عليه المادة السابعة من عقد المعالجة».
هذه الفقرة التي نجدها في غالبية المراسلات بين الشركة ومجلس الانماء والاعمار وبين الاخير والامانة العامة لمجلس الوزراء، هي نقطة الخلل الأبرز التي طغت على عقد المعالجة وتسببت في خلل فاضح فيه. وبالعودة الى العقود الاساسية، يتبين أن أعمال المعالجة قد تضمنت الحرق في محرقة العمروسية التي تم وقفها عن العمل بعد تشغيلها بعدة أيام، بسبب رفض الاهالي في محيط محرقة المعروسية، الامر الذي خفض من كمية النفايات المعالجة لتصل الى ٣٠٠ طن من المواد العضوية التي تعالج عن طريق التسبيخ في الكورال. وبالتالي فإن تحقيقاً إدارياً وقضائياً يجب أن يفتح لتبيان أسباب عدم قدرة مجلس الانماء والاعمار على تأمين قطعة أرض لإنشاء معمل معالجة طيلة فترة ١٧ عاماً، الامر الذي أدى الى طمر ما يقارب ٢٠ مليون طن من النفايات في الناعمة وأوصل الامور الى ما آلت اليه اليوم، من رفض للمطامر من قبل الرأي العام على خلفية طمر كل النفايات في الناعمة بدون معالجة تذكر.
فضيحة أخرى ترشح من تقارير مجلس الانماء والاعمار، تتعلق بمركز المعالجة الاولية لعصارة النفايات LEACHATE في مطمر الناعمة، إذ تبين بموجب قرار مجلس إدارة مجلس الانماء والاعمار رقم ٤٩١/٢٠٠٨ تاريخ ١٩ حزيران ٢٠٠٨ أن الاستشاري لاسيكو يرى أن مركز معالجة عصارة النفايات هو «دون المستوى المطلوب»، وتبين كذلك أن المتعهد يرفض إنشاء مركز معالجة نهائية لهذه العصارة بحجة أن كمية ونوعية النفايات الواردة الى المطمر قد تغيّرت عمّا ما هو ملحوظ في العقد، إضافة الى تأخر مجلس الانماء والاعمار في تقديم الاراضي اللازمة لإنشاء المحطة النهائية. وبدلاً من فتح تحقيق حول الضرر البيئي اللاحق بالبحر نتيجة رمي عصارة النفايات بدون معالجة، اكتفى الاستشاري باقتراح حسم ٣٥٠ الف دولار أميركي من فاتورة المتعهد بسبب عدم معالجة المتعهد لهذه العصارة بالمستوى المطلوب. في المقابل، تبيّن أن المتعهد قام بشفط ونقل العصارة الى محطة الغدير، ما حمّله أعباءً غير متوقعة، رافضاً تغريمه مبلغ ٣٥٠ الف دولار اميركي، اقتضت التسوية وفق ما يرد في تقرير مجلس الانماء والاعمار تغريم المتعهد ٦٧ الف دولار أميركي وتمت لفلفة القضية، ولا تزال حتى اليوم ترمى عصارة النفايات في محطة الغدير بدون أن يتم التأكد مما إذا كانت معالجة قبل تفريغها في البحر!
في عام ٢٠١٠ قدم رئيس الحكومة السابق سعد الحريري عرضاً لمجلس الوزراء يقضي بتمديد عقود سوكلين وسوكومي أربع سنوات، مقابل تعهد مجموعة افيردا بتقديم خفض تجاري إجمالي على جميع عقودها بقيمة ٤ في المئة. لكن مجلس الوزراء الذي شكل لعدة مرات لجاناً وزارية للتحقيق في أسباب عدم تطبيق هذا الحسم، لم يبتّ حتى الآن هذه المسألة المفترض أنه اتخذ فيها قراراً من أعلى سلطة تنفيذية. لكن الشركة تملك الاجابة عن هذا السؤال، إذ تقول إنها ليست على استعداد لإعادة البحث في العرض الذي قدمته عام ٢٠١٠ بخفض الكلفة بنسبة ٤ في المئة، لأن هذا الخفض كان مقروناً بشرط ديمومة العقد لمدة أربع سنوات، لكن الحكومة فضّلت أن يكون التمديد مقروناً بحقها في فض العقد ضمن مهلة ستة أشهر، الامر الذي أفقده مبدأ الديمومة، وبالتالي فإن الشركة أبلغت المعنيين في مجلس الانماء والاعمار أن تعهد خفض الكلفة لم يعد قابلاً للتحقيق. ويتبين أن مجلس الانماء والاعمار الذي وافق ضمنياً على قرار الشركة، قد أجاب عند سؤاله عن الموضوع بأنه ينتظر قرار مجلس الوزراء في هذا الشأن! لاحقاً، لم تكتف الشركة بشرح موقفها، بل قدمت جداول مالية متعلقة بمطالبات وبتكاليف دفعتها الشركة تبرهن أن قيمة ما دفعته منذ عام ٢٠١١ حتى عام ٢٠١٤ يبلغ ٣٣.٦٨ مليون دولار، أي ما يزيد على قيمة الحسم التجاري البالغ ٤ في المئة. وهي مفصّلة على الشكل الآتي: معدات وتجهيزات جديدة (٦ ملايين دولار)، استبدال وصيانة معدات قديمة (١٨.٢ مليون دولار). وجميع هذه الاعمال هي من صلاحية مجلس الانماء والاعمار، فلماذا لم ينفذها؟ كذلك تقول الشركة إن قيمة الفوائد المستحقة لصالحها نتيجة التأخر في دفع المستحقات تبلغ ٧.٦ ملايين دولار، وإنها دفعت لإنشاء محطة كهرباء في مطمر الناعمة مبلغ ١.٦ مليون دولار. وأيضاً عرضت الشركة لمبالغ أخرى تكبّدتها يبلغ مجموعها ١٠٤ ملايين دولار اميركي ، بينها غرامات مالية لعدم بلوغ نسبة ٩.٤١٪ من المواد القابلة للتدوير، وتكاليف عدم تعديل السعر المقطوع على كميات النفايات المرفوعة الفعلية، وعلى مسافات الكنس الفعلية بحسب عقد النظافة رقم ١٣٤٨.
هذا غيض من فيض سوء إدارة مجلس الانماء والاعمار لهذا الملف، وتغاضيه عن كوارث بيئية طيلة ١٧ عاماً. أما عقود الشركات وحساباتها، فيبدو أنها محبوكة على «الورق والقلم» بحسب التعبير اللبناني الشائع، وستعود اللجنة الفنية التي كلفها القاضي إبراهيم بخفّي حنين بعد اطلاعها على دفاترها. فهل تتحرك أجهزة الرقابة والتفتيش؟ لا بل هل تكفّ أيدي مجلس الانماء والاعمار عن هذا الملف، بعد أن تولى مهمة إدارة إغراق كل لبنان بـ»كومة زبالة»؟
(الأخبار)