«أس الصراع» يكشف خبايا «النصرة» وتاريخ بدء «الجهاد» عبد الله سليمان علي
ثمة محاولة واضحة من قبل بعض الفصائل الإسلامية المتشددة لوضع «المقاتلين الأجانب» في سوريا وجهاً لوجه أمام اختبار القتال ضد تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ـ «داعش»، في الوقت الذي لا تزال فيه قضية فصل المؤسس أبو محمد صالح الحموي، المعروف بلقب «أس الصراع في الشام»، تتفاعل وتكشف فصولاً جديدة من كواليس «جبهة النصرة» وسوء القيادة فيها، وتناقض مواقف زعيمها أبي محمد الجولاني.
والقاسم المشترك بين هذين الحدثين هو دلالتهما على بروز دور «المهاجرين» ضمن صفوف هذه الفصائل، مقابل تلاشي ظهور «السوريين»، إلا تحت عناوين الفصل أو الانشقاق.
ولم يكن من قبيل الصدفة أن يصدر «بيان مهاجري الشام بخصوص جماعة البغدادي»، الذي وقعت عليه قيادات «أجنبية» بارزة في كل من «أحرار الشام» و «جبهة النصرة» و «جيش المهاجرين والأنصار»، بالتزامن مع نشر «مؤسسة البصيرة»، إحدى الأذرع الإعلامية في «جبهة النصرة»، إصداراً مرئياً بعنوان «ولتستبين سبيل المجرمين» الذي تولى الحديث فيه اثنان من «أمراء جبهة النصرة الأجانب» وتمحور حول التحريض على قتال «داعش»، لأن عدم الوثوق من موقف «المقاتلين الأجانب» من قتال «داعش» والخشية من انشقاقهم بسبب ذلك، طالما مثّل كل ذلك أحد أهم العقبات التي تمنع بعض الفصائل من الذهاب بعيداً في قتال خصمهم الألد.
لذلك فإن تكليف «قيادات أجنبية» بمهمة التحريض على القتال، وتأصيل هذا القتال شرعياً، يعكس أمرين أساسيين: الأول الرغبة في استغلال موقف بعض «القيادات الأجنبية» المناهض لـ «داعش» من أجل تحصين موقف «المقاتلين الأجانب» ضمن صفوف الفصائل، ومنعهم من اتخاذ موقف سلبي قد يؤدي بهم إلى الارتماء في أحضان عدوهم، والثاني استخدام «المقاتلين الأجانب» كرأس حربة في قتال «الدولة الإسلامية» استناداً إلى مبدأ «لا يفل الحديد إلا الحديد».
ووقّع على «بيان مهاجري الشام»، الذي تضمن تأكيداً على «الاستمرار في قتال هذه الفرقة المارقة»، سبعة قادة «مهاجرين» من «أحرار الشام» بينهم تونسي وسعوديان وأربعة مصريين، وهو ما يؤكد تزايد أعداد «المهاجرين» في صفوف قيادات «أحرار الشام» التي تحاول الترويج لنفسها على أنها «مجموعة سورية» كما ورد في مقال القيادي لبيب النحاس في صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، وخمسة قادة من «جبهة النصرة»، أبرزهم أبو هاجر التونسي وهو المسؤول عن ملف «المهاجرين» والسعودي عبدالمحسن شارخ المعروف باسم «سنافي النصر» وهو أحد أبرز الكوادر التي أرسلها زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري إلى الجبهة وكان يتولى منصب «أمير النصرة في الساحل السوري»، وقياديان من «جيش المهاجرين والأنصار» ذي الأغلبية الشيشانية، وثلاثة سعوديين يقدمون أنفسهم على أنهم مستقلون وغير مبايعين لأي فصيل، وهم الشيخ عبدالله المحيسني ومصلح العليان وأبو محجن النجدي.
وكان لافتاً غياب بعض الأسماء المعروفة بمعاداتها لتنظيم «داعش» عن التوقيع على هذا البيان. وأبرز هذه الأسماء أبو ماريا القحطاني، وهو ما جدد الحديث عن احتمال فصله أو تجميد نشاطه ضمن «جبهة النصرة»، لا سيما أنه أصدر بدوره بياناً قال فيه إنه بعد تداول أحاديث عن احتمال فصله «كان ينتظر صدور نفي من قيادة جبهة النصرة لكن النفي لم يصدر».
وتحدث في الإصدار المرئي، «ولتستبين سبيل المجرمين»، كل من أبو خديجة المهاجر (أردني من أصل فلسطيني) وكان يشغل منصب «الأمير الشرعي للنصرة» في الغوطة الشرقية. وثمة معلومات بأنه انتقل مؤخراً ليصبح أحد القادة العسكريين في الشمال السوري، وكان قائد الهجوم الأخير على بلدتي نبل والزهراء بريف حلب، وقد استضافته قناة «الجزيرة» أكثر من مرة من قلب المعركة للحديث عن مجرياتها. كما تحدث في الإصدار أبو بصير البريطاني، وهو من قيادات «جبهة النصرة» العسكرية في ريف حلب أيضاً.
من جهة أخرى، وفي مقابل التزايد الملحوظ لدور «المقاتلين الأجانب» في هذه الفصائل، هناك محاولات حثيثة للتضييق على القيادات السورية ومنعها من البروز والتأثير، الأمر الذي يكشف عن الأزمة البنيوية التي باتت هذه الفصائل تعاني منها، خاصة في ظل التحولات الفكرية التي طرأت على بعض تياراتها، ولا تتناسب مع وجود «المهاجرين» في صفوفها أو مع تزايد دورهم وتأثيرهم في قيادتها. وقد شكّل قرار «جبهة النصرة» بفصل أحد مؤسسيها أبو محمد صالح الحموي أحدث مثال على ظاهرة التخلص من السوريين لمنع هذه الفصائل من «سورنة» نفسها. وما يعزز من صحة ذلك، ما يجري تسريبه حول أن الدكتور مظهر الويس (عبد الرحمن الشامي)، وهو عضو مجلس الشورى في «جبهة النصرة»، قد يكون مرشحاً لملاقاة المصير نفسه لزميله الحموي.
وكان الحموي قد اصدر بياناً نارياً يرد فيه على قرار فصله، سلّط من خلاله الضوء على بعض خفايا «جبهة النصرة» وما يدور في كواليسها من أسرار وحقائق، تثبت تناقض مواقف زعيمها أبي محمد الجولاني من موضوع في غاية الأهمية هو موضوع «البيعة»، كما تشير إلى ضعف القيادة المركزية وعدم وجود سياسة موحدة ولا نظام داخلي. وأشار الحموي إلى وجود تدخلات خارجية في القرارات التي تصدر عن «جبهة النصرة»، معتبراً أن قرار فصله هو قرار سياسي وليس قرارا تنظيميا. وفي هذا السياق تشير المعلومات المتوافرة إلى أن بعض مشايخ «القاعدة»، وعلى رأسهم أبو قتادة الفلسطيني، يلعبون دوراً كبيراً في التأثير على الجولاني وقراراته ودفعه إلى التخلص من بعض القيادات السورية التي تميل إلى التخلي عن نهج «القاعدة» و «سورنة النصرة» قيادة وأهدافاً.
وقد يكون أهم ما ذكره الحموي، في بيانه، هو تأكيده على أن الجولاني كان يرفض أي اقتراح يتضمن المطالبة بمبايعة زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري، ويصر على البقاء مع «داعش». وروى الحموي أنه «في أول جلسة بيني وبين الجولاني في 23 رمضان العام 2011، وقبل أن أبايعه طلبت منه أن نكون في الشام تابعين مباشرة لخراسان (قيادة القاعدة)، ولا نتبع لدولة العراق الإسلامية، فرفض وقتها، وبقيت سنة كاملة في كل اجتماع معه أذكّره بهذا الأمر، حتى قال لي إن الالتحاق بخراسان في عُرف الإخوة في الدولة يعدّ جريمة، وأرجو منك ألا تكرر هذا الطلب نهائيا مرة أخرى». وهذا يناقض ما دأبت أدبيات «جبهة النصرة» على الترويج له من أن الجولاني كان يأخذ «البيعة» لنفسه موصولة إلى الظواهري. وتصب هذه الشهادة في مصلحة تأكيد رواية «الدولة الإسلامية» حول وقائع الخلاف بينهما.
كما ينبغي عدم إغفال أهمية التاريخ الذي ذكره الحموي، وهو رمضان 2011، لأنه يؤكد أن نشاط التكفيريين في سوريا لم يكن مرتبطاً برد فعل النظام السوري على التظاهرات التي خرجت ضده، بل سبق ذلك بأشهر طويلة وأنه كان مخططاً له من قبل. فمرحلة الشروع في أخذ «البيعات» واختيار قيادات الصف الأول في أي تنظيم «قاعدي» لا تبدأ إلا بعد استكمال إجراءات طويلة من التخطيط والمراسلات وتهيئة البنية التحتية لاستقبال الخلايا الأولى، وهو ما يتطلب عملاً شاقاً وسرياً يستغرق ما بين ستة أشهر وعام. وربما هذا ما يفسر دخول بعض قيادات «دولة العراق الإسلامية» إلى سوريا حتى قبل اندلاع الأزمة فيها في شباط العام 2011، وعلى رأس هؤلاء أبو عبد العزيز القطري الذي اغتيل أواخر العام 2014 بريف إدلب، لتصبح الصورة أكثر وضوحاً مع الشهادة التي قدّمها «أس الصراع في الشام».
(السفير)