مقالات مختارة

النصر النووي الإيراني طبيعة وعِبر وتداعيات… العميد د. أمين محمد حطيط

 

…وانتزعت إيران حقها في التقنية النووية وبادلت بذلك حقاً كاد يغتصب بوهم أو ادعاء هاجس لم تكن هي أصلاً تعمل له أو تفكر به. فإيران لأكثر من سبب شرعي وأخلاقي وأنساني لم تكن تفكر بامتلاك القنبلة النووية التي اتخذ المجتمع الدولي الظن أو تصور النية بامتلاكها ذريعة ليلاحق إيران ويحاصرها ويضعها تحت الفصل السابع بقرارات ظالمة تتخذ في مجلس الأمن من غير مبرر أخلاقي أو قانوني فتؤذي الشعب الإيراني قبل أن تؤذي الحكومة الإيرانية وقواتها المسلحة التي لم تعبأ بالعقوبات، وتابعت مسيرة التطوير وتراكم القوة حتى وصلت إلى سقف جعل العدوان عليها مكلفاً يمتنع العاقل الموضوعي عن خوض تجربته، ثم تطور الأمر إلى حد بات الهجوم العسكري على إيران أمراً لا يقدم عليه إلا مجنون أو راغب بانتحار.

والآن وقد نالت إيران ما رمت إليه أصلاً من المفاوضات مع مجموعة 5+1 أي الدول المنتصرة في الحرب الثانية زائد ألمانيا الجديدة المتنكرة للنازية المهزومة، فإن السؤال المركزي الذي يطرح بعد الوصول إلى الاتفاق يدور على أمرين: ماذا حققت إيران وما تداعيات هذا الاتفاق على مختلف الصعد.

وفي الشق الأول نرى أن إيران حققت أهدافها الأساسية التي جهدت منذ البدء لإرسائها وهي:

الاعتراف الدولي بحقها بالتقنية النووية للأغراض المدنية امتلاكاً وتبادلاً وتجارة وتطويراً مستقلاً من دون أن تكون في تبعية أو تحت وصاية أحد، وبهذا تكون إيران أول دولة في العالم يعترف لها النادي النووي العالمي بهذا الحق من دون أن يكون لها ارتباط أو ارتهان بأحد أو تضطر للتخفي والتستر على ما تملك.

رفع العقوبات الظالمة التي فرضت عليها سواء من قبل مجلس الأمن أو في شكل أحادي منفرد من قبل الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة الأميركية الأمر الذي سيحرر الأيدي الإيرانية من القيود الثقيلة التي أثقلتها خلال العهد الماضي ويفك الحصار وبعض العزلة التي فرضت عليها. وبهذا ستستعيد إيران زخمها لتندفع في توسيع فضائها الاستراتيجي الذاتي والمقاوم في الوقت الذي ستكون فيه محلاً للتنافس الدولي من أجل الاستثمار في إيران وتنمية الاقتصاد الإيراني.

الخروج من تحت الفصل السابع وتحررها من وصاية غير شرعية فرضت عليها من قبل المجموعة الدولية التي تهيمن على قرار العالم، وتكون بذلك أول دولة في العالم تخرج من تحت الفصل السابع من دون حرب يعقبها استسلام أو تدمير أو شل للقدرات فهي تخرج من الفصل السابع محتفظة بكامل قدراتها وكامل قوتها المعترف لها بها.

والأهم مما تقدم هو الاعتراف لإيران بنظامها السياسي والتعامل معها على أساسه واحترام هذا النظام الذي أرسته الثورة الإسلامية على أسس الاستقلال والسيادة وفقاً لقاعدة لا «شرقية ولا غربية» بل جمهورية مستقلة تعرف معنى الاستقلال الحقيقي والسيادة الفعلية وتمارسهما، فإيران التي اعترف الغرب وعلى رأسه أميركا بأنها «ند ذكي»، انتزعت اعتراف العالم القوي بها من دون أن تتنازل عن أي شيء من حقوقها أو مبادئها أو حلفائها.

وبهذه الإنجازات العظيمة تكون إيران قد أعادت الاعتبار إلى مبدأ أساس أرسى عليه ميثاق الأمم المتحدة هو مبدأ «وجوب حل النزاعات بالطرق السلمية» التي يكون التفاوض والحوار طريقها الأساسي، فالعالم وقع على هذا المبدأ عام 1945 ولم يعمل فجاء العقل والإرادة والقوة الإيرانية لتعيد الاعتبار إلى هذا المبدأ ولتفرض على العالم التفاوض للوصول إلى الغاية بعد أن جعلت طريق القوة والعدوان محفوفاً بالمخاطر لا بل مستحيل السلوك. وهنا نقول إن إيران لو لم تكن قوية بما فيه الكفاية لما عبئ بها أحد ولما فاوضها أحد ولما أعيد الاعتبار لهذا المبدأ وفي ذلك تأكيد للمقولة إن شئت السلام فاستعد للحرب. لأن من يستطيع فرض رأيه بقوته لا يذهب للتفاوض ليتنازل.

أما عن التداعيات فإننا نرى أن يوم 14 تموز 2015 سيدخل التاريخ من الباب العريض ويحتل مكانه المرموق في لائحة الأيام التاريخية التي شكلت محطات تغيير جذري في العلاقات الدولية، لأن عالماً مع إيران نووية معترف بحقها، غير محاصرة وغير ملاحقة، ومقبولة كطرف شرعي يتداول التقنيات النووية بيعاً وشراءً ومساعدة وإهداء هو عالم مختلف كلياً عما كان حاله قبل ذلك. وأننا نسمح لأنفسنا بالقول إن إيران أفسحت في المجال أمام الشعوب المطاردة والمحاصرة من دول التسلط العالمي، لتدرك أن سيطرة الخارج والتبعية له ليست قدراً بل إن بالإمكان التفلت منها إذا امتلك الشعب الإرادة في ذلك ومارس حقه في اختيار حكامه الذين يعملون له ولا يشكلون حراساً للمصالح الأجنبية في بلادهم، وفي هذا ترسي إيران لبنة أساسية يقوم عليها النظام العالمي الجديد الذي تشكلت بذرته الأولى في الرحم السوري حيث كان الصمود الأسطوري لسورية في مواجهة العدوان عليها.

ومن جهة أخرى فإنا نرى أن استعادة الزخم إلى الاقتصاد الإيراني بعد تحريره من العقوبات بما في ذلك استعادة الأموال وحركة القطاع المصرفي ورفع القيود عن 800 شركة ومؤسسة إيرانية والعودة إلى الطاقة النفطية الكاملة وتوقف الأعمال الكيدية ضد إيران، كل ذلك ستكون له انعكاسات سياسية وعسكرية وتقنية واقتصادية على إيران ذاتها أولاً ثم على الإقليم وحلفاء إيران وفي طليعتهم مكونات محور المقاومة، وصولاً إلى التأثير في الساحة الدولية كلها وهنا يمكن التفكير بما يلي:

على صعيد أزمات المنطقة ستكون إيران أكثر قدرة ورشاقة للتحرك من أجل حل أزمات المنطقة، ثم أن الدول التي تحتاج أو تسعى لعلاقات اقتصادية ما أو غير اقتصادية مع إيران ستكون أقل تشدداً لا بل ستنحو إلى المرونة والتفهم للمواقف الإيرانية في ما خص ملفات أساسية أربعة تعني إيران مباشرة أو ذات صلة بالاهتمام الإيراني الاستراتيجي العام، في طليعتها العراق وسورية واليمن والبحرين ولبنان. ولا نعني بذلك أن أزمات هذه البلدان ستحل بين ليلة وضحاها بل إننا نتوقع أن يتراجع التصعيد الذي شهدناه خلال المئة يوم الماضية وتدخل الأحداث في خط انحداري باتجاه اللحظة التي يمكن فيها الحديث عن حلول سياسية لتلك الأزمات، حلول تراعي قوة محور المقاومة في صموده أولاً ونووية إيران وتراجع العالم عن محاصرتها ثانياً.

على الصعيد الإقليمي أتصور أن يشتد التباين بين مواقف الدول الإقليمية خصوصاً الخليجية من إيران، وابتعاد بعض دوله عن السعودية في شكل ممنهج متصاعد ولن تكون عمان وحدها الدولة التي يحلو لها أن تعزف لحناً لا ينسجم مع السمفونية السعودية العدوانية والتسلط على العرب وشهر العداء لإيران. أما تركيا فسيكون لها مسار آخر يتصل في شكل أساسي بمصالحها الاقتصادية حيث ستبدو أكثر اهتماماً بهذا الجانب لإنفاذ اقتصادها على حساب المسائل الأخرى التي ستضطر فيها إلى الانكفاء إلا في موضوع الشأن الكردي الذي ستجد في إيران ولاحقاً في سورية خير مساعد لها في التصدي لمخاطرة وفي هذا انعكاس إيجابي يرتقب على الساحة السورية.

على الصعيد الدولي، سيشهد المسرح الدولي تنافساً تناحرياً لكسب ود إيران التي ستشكل في العقد المقبل جنة اقتصادية يطمح بالعمل فيها كل راغب في تطوير اقتصاده ولم يكن من فراغ مسارعة فرنسا لطمأنة نفسها أو التمني بأن يكون للشركات الفرنسية حظ أو نصيب عادل في العمل في إيران وإبداء وزير خارجيتها استعداده لزيارة طهران لينافس المسؤول الألماني الذي حزم حقائبه مع وفد وزاري اقتصادي ليسبق الآخرين إلى الجنة الإيرانية.

أما على الصعيد «الإسرائيلي» فإن أهم ما سيسجل هنا أمران، الأول إظهار «إسرائيل» على حقيقة وزنها الدولي بأنها ليست كما يحاول البعض الترويج لها بأنها «تتحكم» بقرار أميركا والعالم، فالمجموعة الدولية تسير وراء مصالحها قبل مصلحة «إسرائيل»، والثاني التحضير «الإسرائيلي» لصرف الغضب والصراخ مساعدات تقدم لها تعويضاً من الاتحاد الأوروبي وأميركا. فصراخها هو وجه من وجوه الابتزاز السياسي والمالي.

لقد انتصرت إيران وانتصر معها محور المقاومة الذي سجل ربحاً مميزاً في المواجهة لا يقلل من شأنه ما قيل عن «معادلة رابح -رابح» لأن الربح الإيراني المقاوم هو ربح لشيء حقيقي ملموس تمثل بكل ما ذكرنا بينما الربح الآخر هو ربح وهمي تمثل في إزالة هاجس لم يكن أصلاً موجوداً إلا في ذهن أصحابه هذا إذا كان موجوداً أصلاً. أي أن إيران كرست حقها ، وتنازلت عن وهم ، وكرست معادلة جديدة في العلاقات الدولية، وشمرت عن سواعدها للدخول بقوة إلى المسرح الدولي كدولة نووية تنافس الدول العظمى في حل المشاكل الدولية وفقاً للمبادئ التي قامت عليها من السيادة والاستقلال وقوة الحق الذي تحميه القوة.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى