غزة.. الانتصار الناقص – معين الطاهر
عام مر على انتصار المقاومة في غزة خلال حرب استمرت 51 يوما مع العدو الصهيوني، لكن القوى نفسها التي حاولت إلحاق الهزيمة بها في ميدان القتال وفشلت، سعت، فيما بعد، إلى إجهاض هذا الانتصار، وتحويله إلى انتصار ناقص.
تحقق النصر بصمود غزة، ورفض مقاومتها في الأسبوع الأول من الحرب المبادرة المصرية التي أعلنت من دون التشاور مع المقاومة، وبعد التنسيق مع العدو، لكي تأتي على شكل وثيقة استسلام غير مشروط. وانتصرت غزة، حين أجبرت الإسرائيليين على البقاء قرب الملاجئ، وأغلقت مطار بن غوريون مرات، وشلت الحياة الإقتصادية والاجتماعية في دولة الكيان. انتصرت حين فاجأت العدو بقدرتها الصاروخية التي طاولت شمال فلسطين واستمرارها بالكثافة نفسها حتى اللحظة الأخيرة من القتال. وانتصرت بعمليات المقاومة خلف الخطوط، عبر شبكة أنفاقها التي أربكت العدو، وأسرها جنوداً منه، على الرغم من بروتوكول هانيبعل الذي يسمح باستخدام قوة نارية هائلة، تحول دون الاحتفاظ بالجنود الأسرى، ولو أدى ذلك إلى مقتلهم مع رجال المقاومة.
وانتصرت حين فشل العدو بتحقيق تقدم بري ملموس، على الرغم من تفوقه الكامل في العتاد والعدة، وسيطرته على الجو والبحر وفوق الأرض. وانتصرت، حين انسحب العدو خلال ساعتين، بعد وقف إطلاق النار إلى خلف الحدود، في سابقة أولى في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، وبما يخالف تقاليده في محاولة إحراز تقدم ما قبل وقف إطلاق النار، واعتبار ذلك ورقة ابتزاز لاحقة في المفاوضات التي تليه. انتصرت حين فقد العدو قدرته على تحديد هدف للحرب، يتمسك به في سير معاركها، وتراجعت أهدافه، من القضاء على المقاومة ونزع سلاحها، إلى “هدوء مقابل هدوء”، مؤكدا بذلك فشله أيضا في وضع شروط إنهاء الحرب. وانتصرت عند قيام التظاهرات المليونية في عواصم الغرب والشرق، على الرغم من الصمت القاتل في العواصم العربية. وانتصرت عند فشل المداولات في مجلس الأمن الدولي، والخاصة بتشكيل قوة عربية ودولية، بذريعة فرض وقف إطلاق النار، لتقوم بتجريد المقاومة من سلاحها. انتصرت حين أجبرت بصمودها السلطة الفلسطينية في رام الله على التراجع، ولو إلى حين، عن مقولات عدم جدوى المقاومة وصواريخها العبثية، كما صرح الرئيس محمود عباس في المؤتمر الإسلامي، ليعود ويعلن أنه “أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير”. وتراجعت قوى الأمن الفلسطينية عن منع الجماهير من التظاهر في الضفة الغربية، قبل أن تحكم قبضتها مجدداً، خوفا من تحول الهبات الشعبية إلى انتفاضة شاملة.
انتصرت حين تمكنت من تشكيل وفد فلسطيني موحد على أرضية موقف المقاومة وشروطها. انتصرت حين صمدت جماهير الشعب الفلسطيني في غزة، على الرغم من الإصابات الكبيرة في صفوف المدنيين، والتدمير الهائل للممتلكات والبنية التحتية، نتيجة استخدام سياسة “كي الوعي” و”فائض القوة” المتوحشة.
جاءت الطامة الكبرى، حين علقت مصر الجولة الثانية من مفاوضات وقف إطلاق النار، منهية بذلك أي نقاش أو تفاوض حول رفع الحصار وتطبيق بنوده، وجعلته معلقا بالهواء، وقابلا للانفجار في اللحظة التي تختل فيها قاعدة “هدوء مقابل هدوء“
|
لكن، لم يكتمل الانتصار، ولم تتمكن المقاومة من حصد نتائجه السياسية، ورفع الحصار المفروض على غزة. استمر هدم الأنفاق حتى خلال الحرب، وأغلق معبر رفح إغلاقا شبه تام، وجرت محاولات لشيطنة المقاومة وربطها بالإرهاب في سيناء. تخلت السلطة الفلسطينية عن واجباتها والتزاماتها، ورفضت إرسال قوة من حرس الرئاسة تقدر بثلاثة آلاف جندي للإمساك بالمعابر، كما فشلت في حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية في القطاع، وأقلها صرف رواتب الموظفين، ما جعل حكومة الوفاق، بلا هدف ولا رؤية ولا وفاق.
وجاءت الطامة الكبرى، حين علقت مصر الجولة الثانية من مفاوضات وقف إطلاق النار، منهية بذلك أي نقاش أو تفاوض حول رفع الحصار وتطبيق بنوده، وجعلته معلقا بالهواء، وقابلا للانفجار في اللحظة التي تختل فيها قاعدة “هدوء مقابل هدوء”. وتم إجهاض مؤتمر المانحين في القاهرة الذي عقد للاتفاق على آليات لإعادة الإعمار، بعد خطابي الرئيسين، عبد الفتاح السيسي ومحمود عباس، إذ تم وضع شرط جديد لإعادة الإعمار وتقديم المساعدات يتلخص بوجود سلاح واحد في غزة. وبمعنى آخر، جرى مساومة المقاومة على سلاحها في مقابل إعادة الإعمار وتقديم المساعدات الإنسانية. وهكذا حاولت هذه القوى أن تحقق، بعد وقف إطلاق النار، ما عجزت عن تحقيقه وسط أتون المعارك، وأن تحول النصر إلى هزيمة.
وبفعل قبضة التنسيق الأمني، عجزت قوى المقاومة عن تحويل الهبات الشعبية المتفرقة إلى انتفاضة شاملة، تشد من أزر إخوتنا في غزة، وتتقاسم معهم وحدة المعركة ووحدة المصير. في حين عادت الأبواق التي تتحدث عن عبثية المقاومة إلى الظهور، لتحمل المقاومة مسؤولية الوضع الإنساني الناجم عن الاعتداءات الإسرائيلية والحصار العربي المفروض عليها.
لم يفلح ذلك كله في تحويل النصر إلى هزيمة، لكنه نجح في جعله انتصاراً ناقصاً. كان يمكن وسط موازين القوى الحالية أن يكون انتصاراً مدوياً على كل الصعد، لولا تواطؤ ذوي القربي مع الاحتلال. على أن هذا يبقي آفاق المعركة مفتوحة أمام نوافذ المستقبل، ويبقي غزة ومقاوميها والشعب الفلسطيني بأسره أمام مواجهة قادمة، سينتصر بها حتماً.