استراحة المحارب
فاطمة طفيلي
أيام قليلة ونودّع شهر رمضان المبارك ونستقبل عيد الفطر السعيد لنعود بعدها إلى ممارسة يومياتنا المعتادة، او بالأحرى للغرق في شؤون وشجون الحياة، التي وجدنا فيه سبيلا إلى تأجيلها ولو بالحد الادنى، متخذين من الشهر الفضيل فرصة هي اشبه باستراحة المحارب، وإن كان بعض الامور يستحيل تأجيله في خضم أحداث ومشاكل مزمنة ومتأصلة لا سبيل لعلاجها او الخلاص منها.
وعلى الهامش نسجل أن أيام وليالي الشهر الفضيل حفلت بما يشبه الفولكلور العام، يمارس طقوسه الصائمون والمفطرون على حد سواء، وهو أمر يمكن ملاحظته على الموائد الرمضانية في المطاعم، التي قسمت اوقاتها وفق ما يتناسب مع مواعيد الافطار والسحور وموائده الخاصة، جلاب وعصائر فتوش وشوربا وحلويات، وبما يراعي حرمة الشهر الفضيل، وما بينهما خصصته للسهرات اليومية الخارجة عن إطار المناسبة، والداخل أو الخارج يمكنه ملاحظة التبديل، الذي يجري مع ما يواكبه من تغيير في الزوار، ومع انتهاء الافطار يتحرك العاملون سريعا وتسمعهم يرددون: “يللا خلينا نرجع نولّعها”.
يختلف المشهد في المنازل، التي رسمت اطر السهرات بالطريقة المناسبة، وقتٌ للمائدة ووقت للصلاة والعبادة وآخر لمتابعة المسلسلات والبرامج والسهرات التلفزيونية، والكل يركز على ما اختاره، مع الحرص الشديد على الاطلالة بين الفينة والاخرى على ما تبقى من عروض. وإذا دُعيت إلى الافطار في منزل صديق أو قريب، تجد نفسك وبعد السؤال عن الصحة والاحوال أمام امتحان خبرتك وصوابية خيارك لما تتابع من اعمال الموسم الحافل. وفيما تعتبر أنك وقعت على الأفضل وما ترى أنه الأجمل، يفاجئك الحضور بمروحة واسعة مما لم يتسن لك رؤيته مع هذا الكم الواسع، ليبدأ بعدها النقاش حول الجودة والمضمون وطريقة المعالجة مرورا بالممثلين وادوارهم ومقدراتهم، وتميزهم أو ما أصابوا به جمهورهم من خيبة نتيجة سقطة او تراجع في الاداء ومراوحة في المكان، مواضيع مملة أو مكررة سبق تناولها ولم يجد صاحبها طريقا لتغييرها والخروج عن انماطها المألوفة، وعلى اللائحة الكثير مما جرى استنساخه والباسه الصبغة المحلية، او القديم الذي تغير ابطاله وطريقة معالجته دون ان ينجح في خداع المشاهد المتطلب والذي لا تنطلي عليه الخدع والألاعيب، ولا سيما من النجوم الذين يتوقعون منهم الاجمل والافضل، والتجدد الدائم.
وفي غمرة المتابعة ورصد التعليقات يلفتك إجماع على عدد من العناوين، وفي صدارتها تلك التي تحاكي الواقع العربي المشظى والمأزوم منذ انطلاقة ما سمي بالربيع العربي، وهي نتاجات تتفاوت في ضخامتها وأكلافها، لكنها تتساوى في وقعها وصداها لجهة المعالجات الهادفة المصاغة بعفوية تحاكي يومياتنا وهمومنا ومشاكلنا بكل تشعباتها، سواء كانت دراما أو مزيج من الدراما والكوميديا الساخرة التي تضحكنا من فرط الالم والمرارة، وهي حال نجم الكوميديا عادل إمام الذي نجح في “أستاذ ورئيس قسم”، وخلافا لما يراه البعض، في ايصال نقده للواقع المصري قبل الثورة واثناءها وما بعدها ببساطة ودون تكلف من خلال حوارات ومشاهد بسيطة كان فيها إمام يسرق الضحكة منا وهو في قمة الجدية والمواقف الانسانية من خلال تعابيره وتعليقاته الساخرة المفعمة بالألم والامل في آن.
كذلك هي حال المسلسل السوري “غدا نلتقي”، بطولة كاريس بشار ومكسيم خليل، بنماذجه الحية التي ترسم معاناة السوريين بمختلف انتماءاتهم وفئاتهم العمرية في ظل الحرب المستمرة، التي غيرت ملامح حياتهم والقت بهم في متاهات التخبط والنزوح، وما يدور في خضمه من قصص وتفاصيل يومية تثير الالم والسخط في آن، معاناة بعيدة عن ضجيج المعارك، تأخذك إلى عوالم شخصياته تتألم لآلامهم وتفرح لأفراحهم القليلة فتخنقك العبرات وانت تستمع إلى حواراتهم الممزوجة بالألم والحسرة او الخيبة البالغة حد اليأس، ومع ذلك تراهم لا يتخلون عن بقية امل تعينهم على الضحك والابتسام، والتفكير بالحب والحياة والمستقبل الافضل ولو بعد حين، وهم لا يتوانون عن جلد الذات ندما على ما اقترفوه من أخطاء بحق ذواتهم وبحق وطنهم سورية. كم هائل من الاحاسيس يجعلك تشعر بالضيق لشدة ما يتحملون من قهر ومعاناة مادية ومعنوية تصل بك حد الصراخ، كيف يمكن لهؤلاء الاحتمال من اجل ماذا؟. ولكنك لا تتمكن من التوقف عن المتابعة. مسلسل قيل فيه إنه مشغول بمنتهى الحب.
غيض من فيض ما تابعناه خلال الموسم الرمضاني الذي شارف على الانتهاء، ويبقى الكثير الكثير مما يمكن متابعة عروضه الثانية خارج الموسم من أجل مزيد من الانصاف والافادة من أعمال لمم تتسن متابعتها، ويبقى ان تكون العبرة الاساس من الشهر الفضيل قد تحققت وهي الرحمة وعمل الخير ومساعد المكلوم والمحتاج وما عدا ذلك مقدور عليه ويمكن معالجته.