بقلم ناصر قنديل

سعاده… الأمة والحزب والقوميّون… والوديعة

nasser

ناصر قنديل

– في مثل هذا اليوم تحدّى الزعيم أنطون سعاده الموت حتى شق النفس، معلناً التصاقه حتى نفسه الأخير بالعقيدة التي صاغها، والحركة التي أطلقها في شرايين الأمة التي حدّد لها مفهوماً وهوية وأسّس لها حزباً، ووهبها دمه وقوداً وشحنة دافعة في حركة ليست مجرّد إثبات لحجم الاستعداد للتضحية التي يريدها من بعده من مناصريه لنصرة حزبهم وعقيدتهم وأمتهم، بل بوعي تاريخي لموقع ووظيفة الدم عندما يبذله القادة طوعاً في صناعة مفهوم للتضحية من أجل الأمة والعقيدة والحزب، كي يبقى مدى السنين ديناً مستحقاً في أعناق رفاقهم وميزاناً في لحظات الشدّة يدعوهم لتحمّل الصعاب وتخطي عذاباتها، طالما أنّ الانهزام يخجلهم من دم القادة وكيفية بذله طوعاً، قياساً بما يلاقونه هم من متاعب وصعاب وما يستدعيه التحمّل من عذابات وتضحيات.

– عرف التاريخ قادة عظماء وقفوا مع قناعاتهم والتصقوا بها حتى الموت، وقادة بلغوا من الشجاعة والإقدام حدّ القتال والثبات غير آبهين بالمخاطر، وقادة ماتوا في خطوط القتال دفاعاً عن قناعاتهم وعقيدتهم، أو جرى اغتيالهم بعدما استعصى ترويضهم أو إخضاعهم أو تهديدهم، وبعيداً عن البعد الديني للقداسة يمكننا القول لقد سقط تشي غيفارا كما سقط الإمام الحسين وكثيرون غيرهم من القادة العظماء وهم يقاتلون كما يقاتل الكثير من قادة الفكر والرأي في خطوط القتال، وصارت سيرة هؤلاء مصدر إلهام للبشرية في درجة التضحية التي لا يتردّد القادة عن تقديمها في محراب أفكارهم، كذلك بعيداً عن أبعاد القداسة الدينية يمكننا القول، لقد سقط الإمام علي كما كثير من قادة الفكر والثورة غيلة وغدراً تخلصاً من حضورهم الذي لا يخضعه تهديد ولا ينال من عزمه وعيد، كما هو في تاريخنا المقاوم المعاصر السيد عباس الموسوي والحاج عماد مغنية وسواهما من قادة الثورات والمقاومة، وعبر التاريخ أهل العقائد يدفعون أعمارهم وحيواتهم أثماناً لما به يؤمنون.

– نادراً ما وقف مؤسّس عقيدة أمام الموت قراراً وخياراً طوعياً لرفض مقايضة الحياة بالتنازل ولو شكلاً عن عقيدته، ومن كتب التاريخ سيرهم في مثل هذه الوقفات هما اثنان تشبه سيرتهما سيرة سعاده، هما سقراط الذي خيّره سجانوه بين التراجع والاعتذار أو تجرّع السمّ بتنفيذ قرار الإعدام طوعاً بحق نفسه، ومثله مع فارق القداسة الدينية، السيد المسيح الذي رفع على الصليب وسط دعواته للاعتذار من الكهنة ودعوة تلامذته للانسحاب من دعوته لأنها سحر وتجديف، ولكنه اختار عذاب المسامير تنغرز في لحمه وعظامه وهو ثابت على يقين العقيدة، وثالثهما كان سعاده الذي نال من الوقت ما يكفي ليدرس ويقرّر، أن يواجه سجانه ويناديه لتنفيذ حكم الإعدام، وهو يردّد أنا أموت لكن حزبي وأمتي باقيان على قيد الحياة.

– الفارق هنا ليس من باب التميّز بدرجة على سائر الشهداء القادة، ولا تشبيهاً لناحية القداسة التي لها معاييرها لدى الديانات، وعظمة الشهداء على كلّ حال ليست درجات ورتباً، بل الفارق الذي نريد الإضاءة عليه هو في طبيعة الرسالة الخاصة التي يحملها شكل الشهادة وتتوّجها خصوصيتها، فالقائد هنا يودع لحظاته الفاصلة ما بين تبلغه قرار الحكم عليه بالموت، وتنفيذ الإعدام، كلّ تلامذته ومريديه، والمؤمنين بما تركه لهم من مبادئ وأفكار، ليستحضرونه أمام المتاعب والمصاعب ويقارنونها بلحظات المواجهة الداخلية التي خاضها زعيمهم المؤسّس، ويسعون للارتقاء إلى مستوى قراره بالتحمّل والثبات، أو إعلان الانسحاب من العقيدة والحركة التي تجسّدها، اللتين يفترض أنهما تجسيد دمه الباقي بين الناس وعبر التاريخ.

– يحمل التاريخ اليوناني القديم ما يشير إلى أنّ بين تلامذة سقراط من حمل أمانة دمه مترجماً رسالة خياره للموت رفضاً للتراجع عن مبادئه وأفكاره، ومنهم من هزمته رغبة الحياة فغادر المبادئ وهو يستحضر لحظات المعلم الأخيرة قبل قرار تجرّع السمّ فترتعد فرائصه وترتعش مفاصله ويختار عكس ما كان خياره والقرار، ويحمل التاريخ المسيحي سِيَر قديسين تمثلوا تجربة يسوع وعذاباته واختاروا ما اختار فإما دفعوا حياتهم ثمناً مثله وبذات الشجاعة وطواعية الاختيار، أو سجلوا في تاريخ العقيدة ما أمدّها بقوة الدفع والاستمرار، وإيمان سعاده الراسخ أنه بقرار الاستشهاد طوعاً يترك للقوميين من بعده هذه اللحظات التاريخية أمانة ليستمرّ حزبهم وتقوى عقيدتهم أكثر بكثير مما كان سيمدّهما به بقاؤه حياً مساوماً على الحزب والعقيدة.

– ترجم الكثير من قادة الحزب القومي فهمهم لوديعة سعاده، وشهدت محاكمات القوميين في الانقلاب الشهير الذي قادوه في لبنان، كما شهدت سِيَر نضالات الكثير من القوميين في ساحات كثيرة ومواقع كثيرة أنّ الوديعة تحفظ الحزب والعقيدة وتمدّهما بقوة الدفع التي أرادها سعاده، وبقاء الحزب والعقيدة اللذين يحملان اسم سعاده على قيد الحياة بحضور غير قابل للتجاهل والإنكار وقد عصفت بالأمة والناس حروب أفكار وخيارات ومتغيّرات أذابت الكثير من الأحزاب والعقائد، إنصاف تاريخي مستمرّ لتضحية سعاده الكبرى وترك وديعته وقود حياة في ضمائر القوميين ووجدان الأمة، ونجح القوميون في تجسيد الوديعة في ثلاثة أبعاد يشهد لهم بها أعداؤهم ويحسدهم عليها الأصدقاء، فقضية المقاومة للمشروع الصهيوني بقيت شعلة لا تذبل في عروقهم ولا تنطفئ، ولهم في كلّ مراحلها وساحاتها بصمات وومضات وإضاءات تؤكد حضور وديعة سعاده، ومثلها تخطيهم للعصبيات للانصهار في بوتقة العقيدة التي تذيب الهويات الكامنة للقبائل والأقاليم والطوائف والمذاهب التي جاؤوا منها، فصار وجودهم فضيلة أخلاقية لحضور فكرة الأمة بعدما تغوّلت العصبيات وهزمت عقائد كثيرة وفككت أحزاباً كبيرة، وبقي القوميون حزباً للأمة فوق غربالها لا تغربلهم العصبيات ولا يتغربلون، أما ثالث الأبعاد فإنّ القوميين بقوا حزباً منظماً حاضراً بهيكل جامع لهذا الحضور الذي كانت عظمة وديعة سعاده أنها حسمت فيهم أمر الإيمان بتفاهة المدّعين لخدمة فكرة أو أمة أو عقيدة خارج نظام انضباط جماعي طوعي، يجمع من مساحات الحريات الفردية التي يتنازل عنها المنضوون في الحزب لتشكيل مساحة تتأسّس منها نقطة الحرية الجماعية للأمة، وتتسع كلما اتسعت الحركة، وازداد فعلها في تغيير مسار الأحداث.

– في وجه التحديات التي يجمع عليها كلّ المخلصين لنهضة أمتهم بأنها ثنائية المواجهة مع الصهيونية والإرهاب، تتأكد الحاجة إلى ثلاثية سعاده، حركة مقاومة، وعبور فوق العصبيات تعبيراً عن إرادة أمة لا بعض منها، وحزب منظم بدونه يمكن خوض معارك الفكر بطرق دونكيشوتية، لكن لا يمكن إطلاق حركة فاعلة لترجمة الحرب مع الإرهاب والصهيونية، حرب يستحيل أداؤها وأداء موجباتها دون جمع مساحات تراكم من الحريات الفردية لحساب مساحة الجماعة المنظمة وفق الانضباط الصارم قبل البدء بإطلاق النار، وما لا يمكن إنكاره اليوم أنّ تلامذة سعاده الأوفياء هم أبناء حزبه الصادقون مع عقيدته الذين تبقى بهم العقيدة حركة حية في المجتمع تنتقل عبر الأجيال وفي ساحات النضال، ففي ساحتي المواجهة مع الصهيونية والإرهاب يقدّم حضور القوميين الصارخ الدليل الحيّ على إرادة الأمة، ليس لأنه يدعي التقدّم على الذين يتصدّرون ساحة المقاومة أو الحرب على الإرهاب، أو المشروع المدني للدولة، ففي ساحات القتال يتقدّم حزب الله على الجميع، لكنه يتعثر عند حدود تموضعه في لون من ألوان الطيف مقيّد بالعجز عن اختراقه، وفي ساحة الدولة المدنية العابرة للطوائف والعصبيات، يتقدّم نموذج الحكم في سورية، لكنه نموذج يحمل أوزار وجوده في الحكم وما يلحق به من جراء ذلك من أدران الانتهازيين والمتسلّقين، وترهّل المصالح والمناصب، بالتالي ضعف وهج الفكرة وبريقها، ويشكل وجود القوميين الصارخ في الساحتين علامة وشهادة يحتاجها حزب الله وتحتاجها الدولة السورية لاكتمال عناصر صدق الخيار وسلامته، لأنّ الحضور القومي الفاعل هنا ليس مجرّد إضافة في المشهد بل تعبير عن استنهاض لقوى في الأمة لا يكتب النصر للمشروعين من دونها، ولا يمكن استنهاضها بغير حضور القوميين عقيدة وكفاحاً وتضحيات، بالتالي حزباً منظماً تشهد لحضوره الساحات.

– في مناقشة المبادئ التي تركها سعاده، يسهل التعرّف إلى الكثير من الأسباب التي تمنح القوميين فرص الشعور بفرح الانتماء، سواء في هوية الأمة، أو وضوح وسلامة البناء العقائدي، أو متانة منظومة القيم الأخلاقية، لتصير القضية الوحيدة أمامهم هي أداء الأمانة لوديعة سعاده في إشراقاته التي تضمّنتها لحظاته الفاصلة من التأمّل بين قرار الموت ولحظة التنفيذ، أمانة الانضباط في حزب من دونه يصير الإيمان العقائدي ترفاً ولغواً، والأمانة هنا ليست وعداً من سعاده بأنّ حزبه سيشبهه ليشعر المنتسبون بسهولة ويسر التضحية في لحظات الأداء، بل هو تحذير مسبق من أنّ لحظات الأداء التي تنتظرهم هي لحظات تشبه لحظات سعاده التي تركها وديعة للقوميين، ليتساءلوا أمام كلّ مأخذ أو اعتراض أو احتجاج، إن كانوا صادقين للعقيدة والأمانة، أيهما يخدم العقيدة أكثر الجلوس على الرصيف أم النضال من داخل المنظومة الجماعية التي اختارها لهم سعاده، ويقارنوا التضحية التي سيبذلونها لقرار البقاء في منظومة التنازل عن بعض يكبر ويصغر من مساحات حرياتهم الفردية لحساب البناء الذي أرادهم سعاده من بناته، أمام التضحية التي بذلها سعاده، ليكتشف المغادرون أنهم مهما امتلكوا من ذرائع وبيّنات وأسباب للغضب والاحتجاج أنّ المغادرة تشبه استعداد سعاده لطلب البراءة ونيل الحياة بدلاً من وقفة العز التي اختارها ليتمكن من القول إنّ حزبه سيبقى حياً، بعيداً عن سعي مصطنع للبطولة لا يساوي شيئاً أمام حبل المشنقة الذي لا يعادل شيئاً مما يواجهه كلّ تحمّل لضغط الصعوبات والمتاعب التي يمكن أن يجدها المناضلون في حزب الأمة والعقيدة.

– تلاشت عقيدة سقراط ومدرسته وحركته، فبقيت بطولته شهادة لعظمته وحيدة باردة، وبقيت عقيدة المسيح وحركته، على رغم تحوّل الكثير من حضورها إلى طقوس، ومن حق الكثير من القوميين أن يعبّروا عن رفضهم تحوّل حزبهم إلى كنيسة وطقوس، لكن الأكيد أنّ روح المسيحية المتجدّدة ما كانت لتولد في قلب التاريخ مرات عدة لو كان تلامذة المسيح كتلامذة سقراط، وحرصهم على بقاء المسيحية إطاراً منظماً، ويعرف العقائديون أنّ الارتقاء بأداء حزبهم هو ببقائه أولاً وفاعليته ثانياً ثم من داخل المنظومة الحزبية البدء بطرح السؤال، لماذا لا يكون الحزب ثالث الثنائي الذي تمثله الدولة السورية وحزب الله، في حرب يقول كلّ شيء فيها إنّ القوميين هم ثالث أضلاع هذا المثلث الذي يسهل انتصاره باكتمال أضلاعه كمثلث، ينتظر حضور القوميين بحجم ومكانة تجسيد وديعة سعاده، ولأجل أدائها يحق القول للمنكفئين تعباً أو حنقاً أنهم لم يستحضروا في قرارهم المصيري بحق الحزب والعقيدة، لحظات سعاده الأخيرة ولم يطرحوا على أنفسهم السؤال ليقارنوا ما ينتظرهم لو دعموا مسيرة حزبهم بدلاً من الانكفاء، بما كان ينتظر سعاده.

– هذا اليوم دعوة تأمّل إلى القوميين بدم سعاده ولحظات إشراقاته الأخيرة ومراجعة صادقة معه، لمن هم يواصلون المسيرة في الحزب، كيف يصير الحزب أشدّ شبهاً بسعاده واستحضاراً لإشراقاته، ولكن خصوصاً للذين غادروا القطار لمراجعة القرار باستحضار الوديعة وإعادة النظر في الخيار… أنا أموت أما حزبي باق… لم يكذب سعاده فهل يحق لبعض المنتمين إليه قتله مرتين؟

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى