فكرة إنشاء «منطقة عازلة» جنوب سورية د. إبراهيم علوش
بعد لغط الأسبوعين الماضيين حول نية النظام الأردني التدخل عسكرياً في سورية، خرج رئيس الوزراء عبدالله النسور في مقابلته مع قناة «العربية» في 3 تموز 2015 «لينفي» ذلك قائلاً: «لن نتدخل في سورية، لكن نرحب بـ»منطقة عازلة» بقرار من الأمم المتحدة!». وقد تبعت ذلك تصريحات بالاتجاه نفسه لوزير الإعلام محمد المومني لصحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية. في الآن عينه، سربت «مصادر رفيعة المستوى» لبعض مواقع الإنترنت المحلية أن الأردن سوف يتدخل في سورية إذا: 1 انهارت الدولة السورية، 2 نشأت إمارة داعشية على حدوده، أو 3 استمر إطلاق الصواريخ والقذائف العشوائية على شمال الأردن من الجانب السوري.
تبقى العبرة، بعد فشل «عاصفة الجنوب» وصمود الجيش السوري في درعا، بتمسك الأردن الرسمي بمنطقة عازلة جنوب سورية بذرائع شتى مثل تدفق اللاجئين وتصاعد تكاليف القيام بإيوائهم وضرورة إيصال المساعدات للمناطق المنكوبة، و»عدا ذلك فنحن لا نقطع حدودنا على الإطلاق، إلا إذا شعرنا أن هدفاً أو قطعة تريد ضربنا»، بحسب تعبير رئيس الوزراء عبدالله النسور لقناة «العربية».
يذكر أن السياسة الرسمية الأردنية إزاء سورية حاولت الترويج لفكرة «المناطق المحمية» منذ سنوات، وقد لعبت الدبلوماسية الأردنية دوراً نشطاً في الترويج لفكرة «الممرات الإنسانية» رغماً عن السيادة السورية، ومن ذلك مشروع القرار الأردني رقم 2139 الذي أقره مجلس الأمن بالإجماع في 22 شباط 2014، بعدما نزعت منه روسيا صلاحية تنفيذه بموجب الفصل السابع، أي بالقوة، وقد كان قراراً حمّل الدولة السورية مسؤولية «انتهاكات حقوق الإنسان في سورية»! وقد تبعه قرارٌ آخر هو قرار مجلس الأمن رقم 2165 في 15 تموز 2014، أي قبل عام تقريباً، شُرِّع لإدخال المساعدات الإنسانية عبر معابر من تركيا باب السلام وباب الهوى ، والعراق اليعروبية ، والأردن الرمثا ، وهو ما أسس «مشروعية دولية» لإقامة معابر لا تخضع لسلطة الدولة السورية، أي أنه أسس لاختراق السيادة السورية بذرائع إنسانية، وقد جاء ذلك جزئياً ثمرةً لجهود رسمية أردنية، فأسس بذلك لفكرة المناطق العازلة.
لا بد من القفز على هذه الفرصة لتأكيد أننا يجب أن نكفّ مرة واحدة وللأبد عن ترديد ذلك الخطاب الأجوف والمعادي للذات المصر على «التمسك بالشرعية الدولية» وقراراتها. فتلك «الشرعية» لم تكن صديقةً لنا يوماً منذ أعطت فلسطين لليهود، إلى أن حاصرت العراق وعاقبته ثلاثة عشر عاماً، حتى ضربت ليبيا ودمرتها، وها هي اليوم تؤسس لاختراق السيادة السورية. و»الشرعية الدولية» ليست إلا نتاج توازنات دولية. ولذلك يجب أن تكون بوصلتنا ومرجعيتنا هي المصلحة القومية، فإذا توافقت القرارات الدولية مع تلك المصلحة، فإن ذلك يعطيها هي المشروعية، وإن لم تتوافق معها فلتذهب «الشرعية الدولية» إلى الجحيم. ويجب أن نتعامل معها كأي خطوة معادية بمقاومتها وإفشالها وإسقاطها بكل الطرق المتاحة.
هذا مهمٌ خصوصاً عندما يصبح موضوع المناطق العازلة أو الآمنة شمال سورية وجنوبها مرهوناً بقرار دولي. وأرجو أن لا يرد أحد بأن علينا أن لا نخاف لأن روسيا «والصين؟» سوف تمنع استصدار مثل ذلك القرار، فروسيا حليف موثوق ولم يقصر بالدعم، لكنها دولة كبرى لديها حساباتها وهي تحاول الآن ملء الفراغ الذي تتركه الولايات المتحدة في المنطقة، ما يدفعها لمد الخيوط باتجاه السعودية وتركيا وغيرها، لتكون حكَمَاً بديلاً ذا صدقية وقبول عندهم، ما يدفعها أحياناً لتقديم تنازلات وطرح مقترحات لا يمكن فهمها إلا إذا انطلقنا من فكرة أن روسيا تحاول تكريس دورها الدولي في وجه محاولات تهميشها، ومن تلك المقترحات، التي قد تبدو غبية لمن يتناولها من منظور التناقضات الإقليمية التي نعيشها فحسب، فكرة تأسيس تحالف بين تركيا والسعودية والأردن وسورية لمكافحة الإرهاب. فالأساس هنا عرض بوتين للوزير وليد المعلم خلال لقائهما الأخير في موسكو بأن روسيا مستعدة أن تعمل بذلك الاتجاه، أي أن تصبح عراب مثل ذلك التحالف، أي أن تعزز دورها الدولي والإقليمي على حساب الولايات المتحدة، ما قد يدفعها لتقديم بعض التنازلات على حسابنا أحياناً، مثل القبول بممرات إنسانية تخترق السيادة السورية. لذلك علينا أن نتذكر أن «الشرعية الدولية» لا أمان لها، ولا يجوز أن تصبح مرجعية مقبولة مسبقاً بالنسبة لنا كأمة، مع التأكيد أن روسيا حليف لا غنى عنه.
فكرة تأسيس منطقة عازلة جنوب سورية أو شمالها للمناسبة لها أنصارها في الإدارة الأميركية، ومن ذلك مثلاً رسالة أعضاء بارزين في مجلس الشيوخ الأميركي للرئيس أوباما تدعوه لإقامة مناطق عازلة في سورية، بحسب وكالة «رويترز» التي نشرت منها مقتطفات في 21 نيسان 2015. وجاء رد وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر أمام مجلس الشيوخ في 5 أيار 2015 أن إقامة مثل تلك المناطق في سورية سيكون صعباً، وسيتطلب من الجيش الأميركي القيام بعمليات عسكرية كبرى. لكن جزءاً مما قاله كارتر للشيوخ كان حرفياً: «الدول المحاذية لسورية لن تدعم فكرة المناطق الآمنة أيضاً…». إذن، الإيحاءات التركية والأردنية بأن الدولتين على وشك إقامة مناطق عازلة في سورية، ثم الإشارة إلى أنهما، على لسان أوغلو والنسور، لن تتدخلا، بل ستدعمان القرار الدولي بإقامة مناطق عازلة تؤيدهما، كانت عبارة عن مداخلة في الحوار الداخلي الأميركي، وجزءاً من معارضة رفض الرئيس أوباما إقامة مثل تلك المناطق في خضم السعي للتفاهم مع إيران، وهو ما عبر عنه جون كيربي، الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية، بالقول: لا حاجة لإنشاء منطقة عازلة في سورية. والمهم في المنطقة العازلة أساساً، بالطبع، هو ضرورة تعطيل القدرات الجوية للجيش السوري من أجل تطبيقها، ما يُراهن على أنه يمكن أن يقلب ميزان القوى داخل سورية بشكل حاسم.
(البناء)