العالم كقرية صغيرة بنت الأرض (د. بثينة شعبان)
روّج الغرب في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين نظريات الانفتاح الاقتصادي، ودخول منظمة التجارة الحرّة، ورفع الحواجز والجمارك بين الدول باعتبار أن العالم أصبح قرية صغيرة ولن يتمكن أي بلد بعد اليوم بالعيش منعزلاً عن البلدان الأخرى، خاصة وأن التقدم العلمي والتقنيات الحديثة قد ألغت المسافات بين الدول والشعوب والأشخاص. وبغضّ النظر عن الفوائد التي خطط الغرب أن يجنيها، والاتفاقات التي غالباً ما أبرمت لصالحه وصالح تفوقه الاقتصادي والصناعي، إلّا أنّ الترويج الأساسي كان لفكرة الوحدة في الإنسانية، والمصير المشترك للجميع، وضرورة العمل من قبل الجميع وفق هذا المنظور .
ولكن ما إن بدأ عصر الاضطرابات والتوترات والفتن في أماكن شتى من العالم العربي، والذي أسموه بـ”الربيع العربي” بينما هو القدر الأسوأ الذي حلّ بهذه الأمّة منذ عقود، إلى أن انسحبت مصطلحات “العالم كقرية صغيرة” من التداول، وتوقف الحديث عن رفع الحواجز والقيود بين البلدان، وبدأ التركيز على السنّة والشيعة والإسلام المتطرّف. أي، وبشكل غير مباشر، نأى الغرب بنفسه ظاهرياً عمّا يحدث في بلداننا وتجاهل عبور آلاف الإرهابيين من بلدانه ليقطعوا الرؤوس ويدمّروا البشر والحجر، وحتى أنه تجاهل تطبيق قرارات مجلس الأمن التي تُلزم الأسرة الدولية بمحاسبة من يُموّل ويُسلّح ويؤمّن أيّ مبرّر أو مسبّب، ويتجاهل يومياً قتل عشرات الأطفال والنساء والرجال الأبرياء في اليمن فقط لأنّ المراد هو إحكام الوصاية على هذا البلد.
وقد يكون يوم الجمعة الموافق لـ 25/6/2015 هو الذي شكّل بداية صدمة للغرب دفعتهم ربما للتفكير بما يتوجّب فعله. إذ تمّ في يوم واحد تفجير مسجد في الكويت، ذهب ضحيته عشرات القتلى والجرحى، وفندق في مدينة سوسة التونسية، قُتل فيه تونسيون وألمان وبريطانيون، كما تمّ قطع رأس رجل في معمل أمريكي في مدينة ليون الفرنسية، ناهيك عن قتل داعش لأكثر من مئة سوري في مدينة عين العرب السورية. إنّ قتل مئات السوريين واليمنيين والليبيين والتونسيين لم يحرّك ساكناً في الغرب، ولم يُعد إلى الأذهان نظرية “العالم كقرية صغيرة”، فقط قتل سواح أوروبيين في تونس، واستهداف معمل في ليون استدعى اجتماعاً في لندن لاتخاذ تدابير وقائية لمحاربة الإرهاب، واعتراف منسّق الاتحاد الأوروبي لمكافحة الإرهاب أنّ هناك أكثر من 4000 إرهابي أوروبي في سورية.
التجاوب فقط مع إرهاب يضرب أوروبا او يطال الأوروبيين في المنطقة، وتجاهل مئات الضحايا الإرهابية من العرب يومياً وعلى مدى الخمس سنوات الماضية، دليل على أنّ الغرب يؤمن أنّ العالم قرية صغيرة فقط حين تقتضي مصلحته ذلك، أي حين يريد أن تكون بلداننا أسواقاً مفتوحة لبضائعه، وأن نكون نحن جميعاً زبائن مستهلكين لمنتجاته، ولكنه لا يؤمن أننا أخوة متساوون في الإنسانية وأنّ قتل أنفس بشرية في بلداننا يساوي في بشاعته قتل أنفس إنسانية في بلدانه. على العكس؛ إنّ قتل النساء والأطفال والرجال بالآلاف من ليبيا إلى اليمن إلى سورية والعراق وتونس ومصر لم يستوجب، في غالب الأحيان، حتى إدانات لزهق هذه الأرواح البريئة ولا إجراءات، طبعاً، لوقف هذا الداء العُضال الذي يخطّط ليعصف بالعالم برمّته. إنّ من قرأ المذكرة الاستراتيجية لداعش وأخواتها يدرك أنّ هدفهم هو إقامة دولتهم على مساحة العالم برمّته، وهاهم ينقشون على عملتهم خريطة العالم، ولهذا فقد كان ولا يزال من الحكمة والواجب على الغرب أن يقف ضدّ الإرهاب في سورية والعراق واليمن، تماماً كما يقف ضدّ الإرهاب في فرنسا وبريطانيا، ذلك لأنه إرهاب عابر للحدود والقارات. ومازال هناك فرق بين أن يقفوا ضدّ الإرهاب من خلال التدقيق بأسماء وهويات النازحين إلى بلدانهم، وبين أن يعتبروا البشر جميعاً، وفي جميع بلدانهم، أخوة في الإنسانية كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهّر والحمّى. قسط من المشكلة إذاً يكمن في النفاق الغربي الذي مازال يحتفظ بموقف عنصري استعماري اتجاه الجنسيات غير الغربية في خلاياه الدفينة رغم اللغة المنافقة التي يتحدّث بها.
المطلوب اليوم من الدول العربية هو أن تتخذ خطوات سريعة ومشتركة لمواجهة الإرهاب الذي يهدّدها كلّها، ويهدّد مقومات الدولة فيها، كما على جميع دول العالم، دون استثناء، الولوج إلى تحالف دولي حقيقي عسكري سياسي يحارب الإرهاب في كلّ بقعة من بقاع العالم بأساليب جديدة قادرة على دحر هذا التحدّي الجديد للإنسانية، وعلى تقويض أهدافه المستقبلية التي تشكّل خطراً داهماً على أبناء البشرية كلّهم جميعاً.