اميركا: نظرة فاحصةعلى تأصّل نزعات العنصرية والفاشية د.منذر سليمان
“مناطق حرة لاطلاق النار “
ظاهرة الفاشية والعنصرية، قديما وحديثا، يربطها حبل القتل الجماعي السُرّي. اينما حلت القوات الاميركية، المباشرة وغير المباشرة (مجموعات مرتزقة بلاك ووتر)، رافقها مجازر جماعية: فيتنام، كمبوديا، العراق، ليبيا، سوريا، اليمن .. والحبل جرار. حجر رحى الفاشية نشط مجددا باطلاق البيض النار عن سبق اصرار وتصميم ضد السود في الداخل الاميركي، بعضها سجلتها الكاميرات لتنقل بشاعة الجرم وانتهاك الحقوق الانسانية الاساسية.
الفاشية، كعقيدة وممارسة، ليست مقصورة على مجموعة او جنسية معينة او احزاب سياسية بعينها – كما يبلغنا طبيب النفس الشهير ويلهلم رايش. ويقول في كتابه “السيكولوجية الجماهيرية للفاشية،” ان الظاهرة العنصرية هي “امتداد لوعي الحالة النفسية للحضارة ومفهومها الغامض الميكانيكي للحياة،” وكان يقصد الفاشية النازية والاستعمار الاوروبي.
ما يميز الفاشية الاميركية “الجديدة” هي نظرة الاستعلاء والعظمة وفرادة القيم، والتي عبر عنها الرئيس اوباما حديثا بقوله “انا اؤمن بالسمو والاستثناء الاميركي الفريد بكل عرق في جسدي.” ناهيك عن ثبات دعم المؤسسة الاميركية للانقلابات الفاشية في اسبانيا، واليونان، وتركيا، والباكستان والبرازيل، ومعظم دول اميركا اللاتينية؛ ودعم انقلاب فاشستي في اوكرانيا باعتماد 5 مليارات دولار ضد الحكومة الشرعية عام 2014.
كريستوفر كولومبس، عند وصوله وسفنه الى جزر الباهاما عام 1493، ارسل رسالته الاولى الى ملك اسبانيا فرديناند والملكة ايزابيلا الاولى، يبشرهما “باسم الحضارة والدين الغربيين لنبدأ باستقدام اكبر عدد من العبيد” (كما جاء في الاصل)؛ مدشنا بذلك تجارة الرق واستعباد البشر “غير البيض” لبناء صرح “الحضارة الاميركية” بميزتها الاساسية الابادة الجماعية للسكان الاصليين.
رئاسة اوباما فاقمت العنصرية
لا يخفى لكل من يرصد التغيرات والتحولات في الداخل الاميركي تلمس انتعاش التعبيرات والممارسات العنصرية المتجذرة اصلا في المجتمع ضد السود – ذوو اصول افريقية. ايضا، معظم الدراسات الاجتماعية واستطلاعات الرأي تدل بوضوح على تنامي الاضرابات الاجتماعية بشكل غير مسبوق منذ حركة المطالبة “بالحقوق المدنية،” خاصة استعادة خطاب المطالبة بالفصل العنصري.
تكرست سياسة الرق القائم على الاصول العرقية في معظم الولايات الجنوبية من الولايات المتحدة، عبر ما عُرف بقوانين “جيم كرو” العنصرية. اطلق عليها ذاك الاسم المشتق من أغنية من اغاني الريف الاميركي عنوانها “اقفز يا جيم كرو.” الاغنية تستحضر صورة الاسود من الرقيق بينما يمارس “السادة” البيض اطلاق الاعيرة النارية بين قدميه في ظل صيحات يطلقونها “اقفز يا جيم كرو.”
يشار الى ان “آخر” المعارك العنصرية التي خاضها الاوروبيون ضد السكان الاصليين كانت قبيلة “سو،” عام 1890، انتهت بارتكاب مجزرة عرفت باسم موقعة المعركة “الركبة الجريحة.” عقب تلك المجزرة اطلقت المؤسسة الحاكمة لعنان لقوانين عنصرية ضد السود التي عرفها العالم بالفصل العنصري بين السود والبيض، كافضل تعبير عن قوانين “جيم كرو.” ننوه هنا الى البعد الاقتصادي والاجتماعي لعنصرية البيض، الجذر الحقيقي للصراع، وبراعة المؤسسة الحاكمة في تغليفه بجملة تشريعات وقوانين تبرز اولوية الحقوق المدنية على حساب البعد الاساس للتفرقة العنصرية والعبودية الكامنة في صلب النظام الاقتصادي.
ضحايا بالجملة
شاب ابيض في مقتبل العمر يدخل كنيسة يؤمها السود، في مدينة شارلستون، ويطلق النار على المصلين من السود يقتل 9 منهم جملة واحدة ويلوذ بالفرار. عقب القاء القبض عليه اوضح القاتل (ديلان روف) لرجال الشرطة انه “كان يرمي اشعال حرب عنصرية.” لم تشهد المدينة احتجاجات صاخبة ضد عنصرية البيض، كما كان متوقعا، بل بادر اعيان المدينة ورجال الدين الى الدعوة للتظاهر سلميا شارك فيها البيض والسود معا قدر العدد بعشرات الآلاف. يشار الى ان النائب في مجلس الشيوخ عن ولاية ساوث كارولينا، تيم سكوت، اسود البشرة.
استبشرت المؤسسة الحاكمة والقوى الليبرالية خيرا لعدم تفاقم مظاهرات من شأنها تأجيج العنصرية والعنصرية المضادة. الخبير بعلم احصاء السكان، الديموغرافيا، جول كوتكين، افاد بأن معظم المدن الرئيسة المفضلة للسود تقع في الجنوب، 13 من مجموع 15 مدينة مرغوبة. العامل الاقتصادي يعد الدافع الرئيس وراء “هجرة معاكسة” من الشمال الصناعي والثقافي لولايات الجنوب. واضاف ان هجرة السود المعاكسة بلغت عدة ملايين خلال العقد الماضي؛ ولا تزال الخريطة السكانية هناك تعاني من اختلال التوازن، اذ تقطن غالبية السكان البيض في ضواحي المدن الكبرى لرحابتها بينما يميل السود الى داخل المدن وبالقرب من اماكن العبادة.
بالمقابل، اخفقت محاولات رجال الدين واعيان المجتمع في مدينة بلتيمور للحيلولة دون اندلاع مظاهرات صاخبة، الامر الذي يشير الى وعي اجتماعي اعمق بين السكان وارتباط ديني متواضع.
رسم الرئيس اوباما الحدود القصوى لردود الفعل على المجزرة وما ينبغي القيام به، عبر التمسك بالشكليات والمرور الادبي على تجليات العنصرية. واوضح في خطاب تأبين الضحايا ان الجهود ينبغي ان تنصب على التخلص م علم انفصال الجنوب رمز العنصرية. وقال ان العلم يعبر عن “القمع الممنهج والقهر العنصري .. انزال العلم (من الدوائر الرسمية) يعني التعبير عن نعمة الله.”
يشار الى سرعة تجذر مناداة السياسيين من مختلف المشارب والاهواء للمطالبة بانزال العلم، نظرا للتقديس الذي يحظى به بين انصار الفصل العنصري والقوى المتطرفة من البيض، خاصة في الولايات الجنوبية. وانضمت كبرى المتاجر الى حملة انهاء التعامل لبيع العلم ورموزه الاخرى.
وندد اوباما بفعلة القاتل الذي “اعتقَد انه سيحرض (السود) على الخوف (والبيض) على رد الاتهامات .. وتعميق الانقسامات التي تعود جذورها الى الخطيئة الاصلية لبلادنا.” واستطرد بالقول ان الخالق عز وجل كان له “افكارا مغايرة،” واحبط الفتنة.
اميركا تجهد لالغاء سمعة العنصرية
من البديهي القول ان العنصرية متأصلة في الولايات المتحدة، منذ وطأ الاوروبيون ارض قبائل السكان الاصليين؛ ومضى النظام السياسي الى مديات بعيدة لاضفاء طابع “بوتقة انصهار” للدلالة على انخراط ومشاركة جميع الاعراق والاصول. بيد ان الممارسات العنصرية لا تغادر المجالات الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية ايضا، والتي عمقت الهوة القائمة ولا تزال.
عنصرية البيض تمارس ايضا ضد الاقلية “البيضاء” من اصول اسبانية التي تقطن اعداد كبيرة منها في ولايات الجنوب الغربية المحاذية للحدود مع المكسيك، معلنة صراع ذو ابعاد حضارية: الحضارة الاوروبية مقابل الحضارة والثقافة اللاتينية. افرزت المواجهات المتعددة ولادة حركة منظمة للاقلية اللاتينية عرفت باسم “لا رازا – العرق او الشعب.” المصطلح عرفته قديما اسبانيا خلال الحرب الاهلية، في عقد الثلاثينيات من القرن الماضي، خلال سعي الجنرال الفاشستي فرانسيسكو فرانكو احياء الهوية الايبيرية. استنبط فرانكو مصطلح “لا رازا” لتعزيز مفهومه بسيادة وتفوق الشعب الاسباني.
تزايد هجرة الايدي العاملة من الجنوب اللاتيني الى الاراضي الاميركية، بوتيرة عالية منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي، ادى الى قلق السود خاصة في المدن الرئيسة، لاعتبارات مزاحمتهم الفرص الاقتصادية الشحيحة اصلا. واضحت الجالية اللاتينية محطة انظار الساسة والمرشحين لمراكز سياسية مسؤولة طلبا لدعمها، وابتعاد المرشحين بالمقابل عن معاملة السود بالمثل.
تسلقت الجالية اللاتينية السلم الاجتماعي بوتيرة سريعة ملحوظة مقابل تواضع صعود السود. تعبيرا عن حالة الاحباط بين السود، اوضح رئيس “أمة الاسلام،” لويس فاراقان، عقب مجزرة شارلستون “نحن من اسهم في ازدهار البلاد، وعليه عندما اتيتم (لاميركا)، بلغتوا الحلم الاميركي على انقاض كوابيسنا.”
التنافس الاجتماعي والاقتصادي ايضا ينعكس على السود مقابل الجاليات الاسيوية التي تعد من اسرع الجاليات لبلوغ الازدهار الاقتصادي. العديد من الاسيويين يمتلك متاجر متواضعة داخل احياء السود مما يفاقم التوترات واستهداف تلك المصالح عند اول نقطة انعطاف. بالمقابل، يعارض الاسيويون نظام الحصص (كوتا) المخصص للسود في المراكز التعليمية لاعتقادهم انهم اجدر من نظرائهم السود بفرص التعليم.
حركات قومية ام انفصالية
عملا بقانون الطبيعة القائل ان كل ظاهرة تحمل في طياتها نقيضها، فقد افرزت سياسة الفصل العنصري تنظيمات وتجمعات متعددة بين السود عنوانها تحقيق المساواة بين الاعراق. المجموعات العنصرية المتطرفة، خاصة في الولايات الجنوبية، حظيت بدعم وحماية من السلطات في معظم الاحيان.
حقبة الستينيات من القرن الماضي شهدت تنامي الوعي لتحقيق مساواة اجتماعية وفرص اقتصادية بين الفئات المهمشة عبرت عنه بتنظيمات متعددة انشطها كان ذو طابع قومي لتنمية الهوية السوداء، بعضها نادى باقامة دولة سوداء خالصة داخل الولايات المتحدة تزعمها رئيس “أمة الاسلام” لويس فاراقان. واوضح فاراقان في حديث لاحدى شبكات التلفزة “ان لم نستطع العيش سويا بسلام بعد عطائنا اميركا 400 عام من خدمة عرقنا وجهدنا، حينئذ يصبح الانفصال حل لمشكلة العرق بالطبع.”
وبرزت ايضا تنظيمات شبابية اشد جذرية في رؤيتها وبرامجها، اهمها “حركة الفهود السود الجديدة،” مطالبة بانفصال السود، والتي شاركت بقوة في الاحتجاجات المتعددة التي اندلعت العام الماضي في كبريات المدن الاميركية بدافع التصدي “لمؤامرة العرق الابيض احكام سيطرته على السود.”
انتقد عدد من الزعامات السوداء اسلوب التهدئة الذي دعت اليه القيادات الدينية في شارلستون عقب المجزرة. واوضح المسؤول في منظمة “محامون سود للعدالة،” مالك شبّاز، موبخا اولئك بالقول “هناك تعاون بين السلطات المسؤولة وشريحة محددة من السود الذين رضوا التعاون من مراكز القوى .. لا سيما سيطرة قبضتها الحديدية على رجالات الدين في ولاية ساوث كارولينا والتي ينبغي كسرها.” واتهم القيادات السوداء المحلية “الطاعة لقوة البيض .. وعقد صفقة خسيسة مع الشيطان.”
التنظيمات العنصرية البيضاء لا تزال تنشط وبقوة في الولايات الجنوبية، وبعض ولايات جبال الروكي، لعل ابرزها “كو كلاكس كلان،” وفضلت العمل بصمت دون ان تقلع عن ممارساتها العنصرية. مؤخرا ظهر “مجلس المواطنين المحافظين” كراعي وحاضن للقاتل المحتجز في شارلستون، ديلان رووف.
“نخبة” من العنصريين البيض انضوا تحت لواء “المعهد القومي للسياسة” بغية انشاء وتعزيز “شريحة نخبوية من الانفصاليين البيض،” تشرف على اصدار كتيبات ونشرات تدعي التزام الاسس العلمية، احدها كتاب بعنوان “الفوارق العرقية في الذكاء،” وآخر بعنوان “مخاطر التنوع.” مدير المعهد، ريتشارد سبنسر، كان بالغ الوضوح في مراميه بالقول “هدفنا هو بلورة مجموعة نخبوية فكرية محورها القومية الاوروبية.”
البعد السياسي في العنصرية الاميركية
درج الحزب الجمهوري، ببرامجه ومرشحيه، على تسخير القاعدة الانتخابية السوداء لصالحه منذ نهاية الحرب الأهلية ولغاية عقد الخمسينيات من القرن الماضي، عندما تنبهت المؤسسة الحاكمة مبكرا لخطورة اندلاع احتجاجات واسعة تشكل قاعد لثورة اجتماعية، وسارعت لالهاء الفئات العرقية المهمشة بسن قوانين “الحقوق المدنية.” وتحولت القاعدة الانتخابية لتأييد الحزب الديموقراطي الذي استغل قضايا الفصل العنصري لتعزيز مكانته السياسية. واشرف الحزب على حملات “تسجيل الناخبين السود” الذين تم اقصاءهم عنوة بفعل قوانين “جيم كرو” وتشعباتها المتعددة.
شهدت الانتخابات الرئاسية عام 2012 اعلى نسبة من الناخبين السود فاقت نسبة البيض، وفق بيانات “هيئة الاحصاء” الفيدرالي لعام 2013، بعضهم صوت لاول مرة في تاريخه لصالح المرشح اوباما مقابل خصمه الجمهوري ميت رومني. واوضحت بيانات الهيئة ان نسبة المشاركين السود بلغت 66% من المسجلين في القوائم الانتخابية، مقابل 64.1% للناخبين البيض.
يشار الى ان قائمة مرشحي الحزب الجمهوري للجولة الانتخابية المقبلة تضم مرشحيْن ذوو اصول لاتينية، بخلاف تاريخه الذي لا يعير الاقليات اهتماما كبيرا ويستند الى قواعده الانتخابية الصرفة من البيض والنخب الاقتصادية.
تدل البيانات الرسمية الى ارتفاع ملحوظ في نسبة مشاركة الاقليات العرقية والدينية على امتداد خمس جولات انتخابية رئاسية، منذ عام 1996، بلغ معدلها 2،5% مقارنة بنسبة 1،6% في السابق.
نظرة سريعة الى تلك البيانات كافية للدلالة على فوز الرئيس اوباما بنسبة كبيرة: صوت السود من اصول افريقية لاوباما بنسبة 93%؛ و 71% من الجالية اللاتينية؛ و 73% من الجالية الآسيوية.
النمو الاجتماعي للاقليات يمضي بوتيرة اعلى من نمو البيض، وهي ظاهرة ستبقى حاضرة في ذهن قيادات الحزبين لاستنباط اجراءات مبتكرة لجذب اكبر عدد منهم لتأييد مرشحيهم، لا سيما بين الجالية اللاتينية التي بلغ تعداد ناخبيها المسجلين 12،1 مليون ناخب العام الماضي.
العامل العرقي الحاضر دوما في التجمعات الانتخابية لن يحيد في الجولة المقبلة عن استغلاله كعنصر استقطاب، مما يؤشر على منافسة حامية للفوز باصوات الاقليات المختلفة؛ مع الاشارة الى خطأ جسيم ارتكبه مؤخرا المرشح الجمهوري دونالد ترامب بازدرائه المهاجرين من اصول مكسيكية. المكافأة الحقيقية ستتجسد في نسبة التأييد المقبلة.