تصنيع الكذب: محسن مخملباف نموذجاً د. صادق النابلسي
عندما تصبح الثقافة تجهيلاً وجموداً مذهبياً، لا يعود العقل عقلاً، ولا المهنة رسالة، ولا التباين في الآراء غنى.
هذه نتيجة طبيعية إذا حلّت المذهبيات الذهنية والعصبيات الثقافية على مناخ هو في الأصل فاسد وموبوء بالأفكار التي لا تحرّر العقل، بل تقيّده بموازين ومقاييس يظنّ صاحبها أنها يقينية. بعبارة أخرى تصبح الثقافة انعكاساً لإيديولوجيا وثوقية من أجل مزيد من التسويغ، لا معرفة علمية من أجل مزيد من الهداية والكشف والتطلعات الفكرية.
هكذا يذهب اليوم مثقفون بارزون إلى أحضان المستعمر، يعيشون معه وهم الطليعية ويضعون أنفسهم موضع من يحق له تقديم الصورة التي يجب أن يكون عليها العالمان العربي والإسلامي. ويروّجون كالفضائيات تماماً، لأفكار سريعة الجري، يرتفع معها هياج واضطراب الجماهير. الكذب أمر باطل ولكنّه يحصل بقوة عندما يريد المثقف أن يصل إلى غرضه. والخداع كذلك، ولكن لا بأس به للتشكيك بإيمان وتوجهات وخيارات شعب يقاتل من أجل الحرية والاستقلال والتقدم. والخيانة شيء مشين، ولكنها مقبولة وضرورية لتعميم الثقافة السطحية والتجهيلية التي تجذب الحواس وترفع من مستوى المشاهدين. مثقفون من هذا النوع ينجحون في تكوين قبائل تنقاد إلى ما ينشرونه من أفكار تأخذ شكل رواية أو مقالة أو فيلم أو غير ذلك.
وأخيراً، راج وثائقي للمخرج الإيراني محسن مخملباف بثته فضائيات كثيرة منها فضائية «المستقبل» اللبنانية عن مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية السيد علي الخامنئي، وتتجلى المفارقة الأولى أنّ الوثائقي المذكور هو بالفعل أسوأ ما أنتجه هذا السينمائي المبدع.
وإذا كان المجال لا يسمح بنقد العمل من الناحية الفنية، ولكنّه يسمح بالإشارة إلى إشكالية وقوع المثقف في الوهم والإسقاطات، بحيث لا تعود المعرفة وسيلة كشف بل وسيلة انحياز وتمذهب وتمويه وتشويه.
كان واضحاً أنّ الفيلم يدور في مدار خاص وله وظيفة محددة هي مجابهة الخصوم بالكذب. ومهمة مخملباف كانت تصنيع الكذب وتقديمه كأفكار وثوقية قطعية تدور في وعي الجماهير لزعزعة الاعتقاد بشخصية السيد الخامنئي القيادية والسلوكية والسياسية، وتحويله إلى زعيم مترف وديكتاتور مستبدّ، وشخص غارق في الأنانية والشخصانية.
ومنطق مخملباف، وهو في ظنه من خلال مناهضته للحكم الإيراني، أنّه يقدّم الصواب على الخطأ، فإذا به يقدّم الخطأ بنحو أفدح، والشعار الذي رفعه لكلّ من يعارضه: «إنْ لم تكن معي ومع خطي فكلّ ما تقوله وتفعله وتمارسه وتؤمن به باطل».
قطعاً الحرب التي تدور رحاها اليوم في جزء كبير منها هي حرب أفكار وتصوّرات للسيطرة والتحكم في الجماهير وإخضاعها للآلة الثقافية والإعلامية والسياسية والعسكرية الغربية. الإخضاع هنا شامل، أيّ خضوع فكري وفيزيائي شامل، ولذلك تمّ اختيار مخملباف للمهمة الفكرية لإحداث مزيد من التمزق الذهني في وعي وقيم وثقافة الشعب الإيراني. أيّ قتل الأفكار الإسلامية وذبح الرموز الإيمانية التي من خلالها تستهدي الشعوب وتنتصر.
هنا تذكرت قول الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه: «اقتلونا فإنّ شعبنا سيعي أكثر فأكثر».
وكما أنّ المطلوب في المعركة العسكرية أن نأخذ بشعار إلى السلاح. حسناً فلنفعل الشيء ذاته في المعركة الثقافية، فإلى السلاح…
(البناء)