إيران بعينَي بكين كيفن ليم
11 حزيران/يونيو 2015
على الرغم من أن الصين هي المستورد الأكبر للنفط الإيراني منذ زمن بعيد، أدّتت العقوبات الدولية مؤخراً إلى تراجع الجمهورية الإسلامية من المرتبة الثالثة إلى المرتبة السادسة في لائحة موردي النفط إلى بكين، التي تتبوأ فيها المملكة العربية السعودية – منافسة إيران – المرتبة الأولى باستمرار. وبالمثل، فعلى الرغم مما أفادته التقارير عن ازدياد قيمة التجارة الثنائية بين الصين وإيران إلى حوالي 50 مليار دولار أمريكي بحلول أواخر عام 2014، تبقى تلك التجارة محدودة جداً مقارنة بالتجارة الثنائية بين الولايات المتحدة والصين، التي تفوق قيمتها المبلغ المذكور بـ 11 ضعفاً .
واستناداً إلى هذه الأرقام، فالسؤال هو لماذا تلعب إيران دوراً يبدو أنه أكبر من حجمها في حسابات بكين في المنطقة، علماً أن ذلك غالباً ما يسبب حيرة بالنسبة إلى شركاء الصين الأكبر بكثير من إيران في مجالي الطاقة والتجارة في الرياض وواشنطن؟ إذا وضعنا سياسة حافة الهاوية الدبلوماسية جانباً، يكمن الجزء الأكبر من الإجابة في قيمة إيران الجيوستراتيجية كمحور رئيسي في التقدم الصيني البري باتجاه الغرب، الذي تعتبره الصين ضرورياً لمواجهة كل من استدارة واشنطن نحو الشرق والتفوق البحري للولايات المتحدة.
الخلفية
تعود العلاقات المتينة بين الصين وإيران إلى حقبة إمبراطورية الهان والإمبراطورية البارثية، حين كانت الحضارتان شريكتان تجاريتان على «طريق الحرير» القديم. ومع الفتح العربي للإمبراطورية الفارسية الساسانية في القرن السابع الميلادي، طلب بيروز الثالث، نجل الملك الساساني الراحل يزدجرد الثالث، اللجوء إلى الصين، التي كانت حينئذٍ تحت حكم سلالة تانغ بزعامة الإمبراطور غازونغ، وقد منحه هذا الأخير الإقامة في البلاد. وفي العصر الحديث، بالرغم من الاختلافات الإيديولوجية الكبيرة بينهما، ترك كل من المرشد الأعلى للثورة الإسلامية روح الله الخميني وزعيم الحزب الشيوعي الصيني ماوتسي تونغ لبلديهما إرثاً ثورياً مناهضاً للهيمنة الإمبريالية والاستغلال الأجنبي، الأمر الذي وضعهما في الخندق نفسه في مواجهة الوضع الراهن الذي تقوده الولايات المتحدة.
ومع مرور الوقت، أصبحت الصين أقل حلفاء إيران من القوى الكبرى الغير جديرة بالثقة – ناهيك عن القول أكثرها جدارة بالثقة – وشكلت محوراً أساسياً لحفظ التوازن أمام الولايات المتحدة. وخلال حرب إيران المنهكة مع العراق التي دامت ثماني سنوات، كانت الصين هي القوة الكبرى الوحيدة التي زودت إيران بالأسلحة (على الرغم من أنها فعلت الشيء نفسه مع بغداد). وفي عام 1985، وقعت حكومتا البلدين اتفاقاً سرياً للتعاون النووي خلال زيارة رئيس مجلس النواب الإيراني آنذاك أكبر هاشمي رفسنجاني إلى الصين. وازداد التعاون بين البلدين بشكل متواصل حتى عام 1997، عندما أدت الضغوط الأمريكية حول أزمة مضيق تايوان في العام الذي سبق إلى دفع الصين إلى تعليق مساعداتها في المجالين النووي و[تطوير] الصواريخ إلى طهران. ومع هذا، فبحلول ذلك الوقت، كانت السنوات المتتالية من الدعم التقني من الصين وكوريا الشمالية قد ساعدت إيران على إنشاء صناعة محلية لإنتاج الصواريخ، تشكل اليوم ركيزة أساسية في استراتيجيتها الدفاعية.
أما في الميدان الاقتصادي، فقد خفضت الصين وارداتها النفطية من إيران في السنوات الأخيرة بهدف الحفاظ على موقعها بين الدول المعفاة من العقوبات الأمريكية المفروضة على الصادرات النفطية الإيرانية. ومع ذلك، فتبعاً للتخفيضات التي سببتها العقوبات على الجمهورية الإسلامية، استمرت الصين في شراء نصف صادرات النفط الخام الإيراني. هذا، وبالإضافة إلى الأسعار المنخفضة التي تعرضها طهران بسبب العقوبات، تشكل الإمدادات الإيرانية جزءاً هاماً جداً بالنسبة إلى بكين، لأن منتجي الطاقة الرئيسيين الآخرين في الخليج هم شركاء للولايات المتحدة.
التأكيد على المعاقل الأوراسية
في الآونة الأخيرة، تسعى الصين إلى الالتفات نحو الغرب في إطار مشروع «حزام طريق الحرير الاقتصادي» (“سيشوزيلو جينغجداي”) الذي أطلقه الرئيس الصيني شي جين بينغ في أيلول/سبتمبر 2013. وقد سبق أن دفع وانغ جي سي – أحد ألمع الأدمغة الاستراتيجية في الصين – بفكرة “الالتفات نحو الغرب” في عام 2011، بهدف ملاقاة استدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما نحو الشرق ومواجهتها. وتحت إدارة شي جين بينغ، يبدو أن أولويات بكين المباشرة فيما يخص «طريق الحرير» هي ثلاثية الأبعاد:
1- تأمين التدفق البري للطاقة من آسيا الوسطى المجاورة (وروسيا)، بهدف مواجهة خطر الاعتراض البحري، وخصوصاً عبر ممرين مائيين حساسين، هما مضيق ملقة (الذي يعبر من خلاله 80 في المائة من النفط الصيني) ومضيق هرمز (الذي يمر من خلاله نحو خمس واردات الصين من النفط)
2- استغلال المشاريع التنموية بهدف تهدئة مقاطعة سنجان الغربية المضطربة والغنية بموارد الطاقة، حيث حمل الانفصاليون الأويغور، الذين يسعون إلى تأسيس دولة تركستان الشرقية، السلاح مراراً ضد الصينيين الذين ينحدرون من قومية الهان.
3- تحفيز قدر أكبر من الاستقرار والتكامل الإقليميين عبر تطويق جيران الصين الغربيين في منطقة مزدهرة تمتد حتى أوروبا، وتكون بكين مركزها الاقتصادي والسياسي.
تُعد الصين المستورد الصافي الأكبر للنفط في العالم. ونظراً إلى مخاطر الاعتراض البحري، أصبحت الحاجة إلى قنوات طاقة برية بالغة الأهمية. ووفقاً لذلك، تم بناء أنبوبين جديدين لنقل النفط والغاز وتشغيلهما في عام 2006 وأواخر عام 2009. ويضخ أولهما النفط من منطقة أتيراو الكازاخستانية الشمالية المشرفة على بحر قزوين بشكل أساسي، ويمر عبر مقاطعة شينجيانغ الصينية ونحو الساحل، ليشكل حوالي 4 في المائة من استيرادات الصين من النفط، التي بلغت 6.2 مليون برميل يومياً في عام 2014. والأنبوب الثاني يضخ الغاز الطبيعي بشكل أساسي من حقل سامان ديبي في تركمانستان، التي كانت أكبر مورد للصين من الغاز الطبيعي منذ عام 2012. ووفقاً لأرقام عام 2013، شكلت واردات الغاز التركمانستاني حوالي نصف واردات الصين السنوية من الغاز الطبيعي، التي تبلغ 53 مليار متر مكعب وحوالي السدس من استهلاكها الشامل من الغاز. وتنوي حكومة عشق آباد زيادة هذه الصادرات إلى أكثر من الضعف بحلول عام 2020.
وتطبيقاً للمقولة الصينية «إذا أردت أن تزدهر فإبنِ الطرقات أولاً» (“ياو شيانغ فو، زيان شيوى لو”)، تسعى الصين كذلك إلى تحديث شبكة الطرقات والسكك الحديدية الواسعة الممتدة عبر آسيا الوسطى، وتموّل تلك الجهود عبر «بنك الاستثمار للبنية التحتية الآسيوية» و «صندوق طريق الحرير». وفي عام 2012، أنجزت الصين بناء سكة حديد تمتد من قورغاس الصينية إلى زيتيجين في كازاخستان، ومنها إلى غرب روسيا وأوروبا، في موازاة السكة الحديدية التي تمتد من أورومتشي، عاصمة مقاطعة شينجيانغ، وتمر عبر بوابة جونغاريا الصينية (ألاشانكو) وإلى ألماتي، أكبر مدينة في كازاخستان. وقد يشق هذا الممر طريقه بين الشرق والغرب عبر إيران ليصل إلى الخليج في النهاية. ووفقاً للمفكر الاستراتيجي غاو باي، سعت الصين إلى إيجاد ثقل مضاد للتفوق البحري الأمريكي عبر بناء خط سكة حديد فائق السرعة قادراً على بسط السلطة من ساحل الصين الشرقي إلى قلب أوراسيا – ويشكل ذلك نوعاً من جدار قاري في حال وقوع اضطرابات بحرية. وعلى الرغم من التحديات التي قد يمثلها نظام أوراسي – الخاضع لسيطرة الصين – بالنسبة إلى روسيا، أفادت التقارير أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعطى الرئيس الصيني تشي جين بينغ مباركته في تشرين الأول/أكتوبر 2014 بعد أن وافق الأخير على أن تُشمل سكة الحديد العابرة لسيبيريا وسكة «بايكال آمور ماجيسترال» في مشروع «حزام طريق الحرير الاقتصادي».
القيمة الجيواستراتيجية لإيران
إن السؤال الذي يطرح نفسه هو أين دور إيران في ظل جميع هذه التطورات؟ فطهران ليست فاعلاً مؤثراً في آسيا الوسطى، ويعود ذلك جزئياً إلى رضوخها أمام موسكو، وإلى حذر بلدان آسيا الوسطى من التغلغل الإيراني في المنطقة عبر سياسة القوة الناعمة التي تمارسها. حتى إن تجارة الجمهورية الإسلامية مع جمهوريات آسيا الوسطى متواضعة بشكل واضح. إلا أن إيران تلعب دوراً جيوستراتيجياً كونها طريق الوصول غير الروسي إلى المياه المفتوحة الأكثر ملاءمة بالنسبة إلى تلك البلدان، وحيث تشكل التقاطع الوحيد لخط التجارة في آسيا الوسطى الذي يمتد بين الشرق والغرب والشمال والجنوب. وفي أيار/مايو 1996، استبدلت إيران وتركمنستان هذه الحلقة المفقودة عبر افتتاح سكة حديد بين مشهد وتيجين طولها 300 كيلومتر. وفي كانون الأول/ديسمبر 2014، افتتحت كازاخستان وتركمانستان وإيران سكة حديد تمتد من أوجين (جانازون)، مروراً بجرجان، ووصولاً إلى موانئ إيران في الخليج.
وفي الوقت نفسه، أكملت تركمانستان وإيران بناء أنبوب غاز في عام 1997 يربط كوربيجي التركمانستانية بكردكور الإيرانية، وأعقبه أنبوب غاز «دولة آباد- سرخس- خانكيران» في عام 2010. وتؤمّن تركمانستان حوالى 14 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً إلى إيران، فضلاً عن نسبة كبيرة من كميات الكهرباء التي تستوردها الجمهورية الإسلامية. كذلك، يغذي الغاز الكازاخستاني المرسل في ناقلات نفط عبر بحر قزوين مقاطعات إيران الشمالية المحرومة من مصادر النفط والغاز، بموجب اتفاق تبادل يضمن بيع طهران لكمية مماثلة من الغاز نيابة عن أستانا عبر الخليج العربي. وبالإضافة إلى طرق التصدير الأقصر التي توفرها إيران، فإن العلاقات القائمة معها في مجال الطاقة مغرية نظراً إلى تاريخ روسيا الطويل في الضغط لتخفيض أسعار تصدير الطاقة من دول آسيا الوسطى الخاضعة لسيطرتها. ومع ذلك، لم تكن هذه العلاقات سلسلة تماماً – فقد نشبت خلافات بيروقراطية مع طهران حول رسوم العبور، وأسعار الوقود، وطرق الدفع، وما شابه ذلك.
وبالنسبة لبكين، فإن ما يزيد من قيمة إيران الجيوستراتيجية هو موقعها الممتد على أحد جسري العبور البريين في الصين نحو الغرب. أما الجسر الآخر فيمر بمحاذاة الشاطئ الشمالي لبحر قزوين عبر كازاخستان وجنوب غرب روسيا بالقرب من منطقة القوقاز، ولكن يمكن القول أن إيران تمثل الطريق الأكثر أهمية لأنها صلة الوصل مع كل من أوروبا والخليج. ونظراً لهذه الركيزة من الربط القاري، اتخذت الجمهورية الإسلامية موقعاً مهماً بالنسبة إلى بكين، يتخطى حجم سوقها المحلي أو دورها كمزود للطاقة.
الخطوات المقبلة
إذا أدى الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة إلى رفع العقوبات عن طهران، فليس هناك شك في أن الصين ستعزز حضورها في الاقتصاد الإيراني. وبالمثل، سوف تواجه الصين قدراً أقل من العقبات في توسيع شبكات الطرق، والسكك الحديدية، والأنابيب التابعة لها عبر الجسر البري الذي يمثله المنبسط الإيراني المرتفع. كذلك، من الممكن أن يمهد الاتفاق النووي الطريق أمام انضمام إيران بشكل كامل إلى «منظمة شانغهاي للتعاون»، علماً أن طلب عضوية إيران رُفض منذ عام 2008 على أساس أن طهران تخضع لعقوبات الأمم المتحدة. ويُنظر عموماً إلى «منظمة شانغهاي للتعاون»، التي تضم الصين وروسيا، وجميع جمهوريات آسيا الوسطى باستثناء تركمانستان كأعضاء كاملي العضوية، كثقل مضاد لـ «حلف شمال الأطلسي» (“الناتو”) والولايات المتحدة، ولذلك يكاد يكون من المؤكد أن إيران تعتبر المنظمة ضمانة إضافية في حال نشوب أي نزاعات مع الغرب في المستقبل.
وعلى خلفية ذلك، يجب الاعتراف بأن خيارات واشنطن ضيقة. فاحتواء كل من الصين وإيران هو وصفة مؤكدة لدفع البلدين إلى التقارب. كما أن مواجهة إيران بالتوازي مع استيعاب الصين – أو العكس بالعكس، وهو سيناريو غير محتمل أكثر من الأول – سيترك ثغرات يمكن لأي من الطرفين استغلالها. وكلما انشغل البيت الأبيض بالألغاز الفارسية، ضعفت عملية “إعادة ترتيب” الموارد باتجاه آسيا، وهذا أمر يناسب بكين للغاية. ويمثل الشرق الأوسط وإيران على وجه الخصوص الأولوية الأكثر إلحاحاً بالنسبة إلى واشنطن، ولكن الصين تمثل التحدي الأبرز للسياسة الخارجية البعيدة المدى للولايات المتحدة. لذا، فإن طريقة تفاعل بكين وطهران في الوقت الراهن ستكون لها نتائج هامة على الاستراتيجية الأمريكية الكبرى.
كيفن ليم هو باحث في معهد واشنطن حول السياسة الخارجية والأمن في منطقة الشرق الأوسط، التي كان يقيم فيها ما يقرب من عقد من الزمن.
http://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/iran-seen-from-beijing