القلمون حرب «داعش» وليست تدمر والرمادي
ناصر قنديل
– تولت الصحافة العالمية الترويج لمعادلة في الجغرافيا العسكرية للمعارك التي خاضها تنظيم «داعش» في الشهرين الأخيرين، قوامها أنّ الدخول إلى الرمادي هو تقرّب من العاصمة العراقية بغداد، وأنّ الدخول إلى تدمر هو تقدّم نحو العاصمة الجغرافية العسكرية للحرب في سورية التي تمثلها حمص، والتتمة المرتبطة بهذه الرواية التي التقى عليها الرواة والمحللون، هي أنّ التنظيم يواصل مشروعه بإقامة دولته وتوسيعها، ولا قوة تقف عائقاً في وجه تقدّمه سواء التحالف الدولي أو الجيشين العراقي والسوري.
– تستند هذه السيناريوات إلى القرب الجغرافي للمواقع التي دخلها «داعش» من المدن الاستراتيجية في سورية والعراق، من جهة، وإلى فعالية الإبهار في الطريقة التي بدا فيها فجأة «داعش» في هذه المواقع من دون وقوع معارك مواجهة حقيقية ما يعني أنّ افتراض تكرار الانسحاب أمام «داعش» من دون قتال بفعل انهيار المعنويات أو وجود اختراقات أمر قابل للتكرار.
– أول ما يلفت انتباه المدقق في هذا السيناريو هو تطابق نشره بين وسائل إعلام ومراكز بحوث ودراسات ومراجع ديبلوماسية، يفترض نظرياً أنها لا تستند إلى مصدر تحليل ومعلومات واحد، ما يستدعي التساؤل عن سرّ هذا التطابق ما لم يكن السبب هو استحالة افتراض سيناريو آخر ولو من باب علم الاحتمالات، خصوصاً أنّ مفعول الترويج لهذا السيناريو ينطوي ضمناً على حرب نفسية تريد أن تصل في العراق للقول إنّ شرط التصدي لـ«داعش» في الرمادي ومنعه من الاستقرار والتقدّم بالتالي نحو بغداد هو بناء ميليشيا مستقلة لأبناء الأنبار تشبه الحشد الشعبي الذي منع من المشاركة في حماية الرمادي من السقوط بقرار أميركي معلن، ومعلوم أنّ هذا الخيار مختلف عن دمج أبناء العشائر بالحشد الشعبي وتحت قيادة الجيش كما كانت تطلب الحكومة العراقية، وفي حال حصول ما يطلبه الأميركيون من ميليشيا طائفية مستقلة تشبه نظريتها عن ما تسمّيها «المعارضة السورية المستقلة» التي يُفترض أن تقاتل «داعش» والجيش السوري معاً، فالميليشيا العراقية الجديدة يجب أن تقاتل «داعش» وما تسمّيه واشنطن ودول الخليج بالنفوذ الإيراني، والوصفة المشابهة في سورية، هي القول باستحالة صدّ داعش من دون تعديل مفهوم المعارضة المعتدلة لتصير «جبهة النصرة» هي عمودها الفقري، والوصفتان تعنيان أخذ العراق وسورية إلى حرب لا تنتهي ولو تمّ التخلص من «داعش».
– وجود الشبهة ورائحة الدسّ في تسويق هذا السيناريو تفترض متابعة التساؤل عن سرّ التهاون الأميركي مع تقدّم «داعش» مئات الكيلومترات في الصحاري المفتوحة بين الموصل والرمادي من جهة والرقة وتدمر من جهة أخرى، وهي مسافة يحتاج قطعها لساعات بقيت فيها مواكب «داعش» مكشوفة لسلاح الجو الأميركي وهي تتقدّم وتشعر بالأمان؟ ويتابع السؤال، ما هو سرّ أنّ «داعش» يتقدّم فقط في الأماكن المفتوحة وعندما يصير التقدّم بحاجة لعبور أماكن مأهولة ينكفئ أو ينهزم؟ وما جرى في عين العرب وما يجري في الحسكة يؤكد ذلك. وما يعنيه هذا من أنّ تقدّم «داعش» مشروط بالاطمئنان لخلوّ الأجواء من طائرات التحالف من جهة وربما من معلومات أمّنتها أجهزة استخبارات تملك أقماراً اصطناعية تواكب التقدم وتفيد عن خلوّ الأجواء من الطيران السوري والعراقي أيضاً. والمنطق البسيط يقول إنّ «داعش» العاجز عن دخول مدينة الحسكة التي لا تملك خطوط إمداد مفتوحة، لن يستطيع التفكير بالتقدّم نحو حمص، ومن لا يملك القدرة على اقتحام تكريت التي مُني فيها بهزيمة نكراء لن يفكر بالاقتراب من بغداد.
– التدقيق أكثر وأكثر والتمعّن في الخريطة أمامنا سيُرينا، بعد التيقّن من البصمات الأميركية الواضحة في نجاحات «داعش» بدخول الرمادي وتدمر، أنّ المساحات الصحراوية بين الرقة وتدمر ومثلها بين الموصل والرمادي، مثلها أيضاً بين الرمادي وتدمر، وأنْ كتما هذا المربّع، يعني أن دخول الرمادي كان مرتبطاً بدخول تدمر والتهيئة له أولاً، وثانياً أنّ هذا المربع لا يصل إلى نهاية المساحات الصحراوية المفتوحة التي تشكل وحدها المدى الجغرافي لحملات «داعش» العسكرية، فثمة قفزتان ممكنتان لرأس رمح المربع الواصل إلى تدمر، واحدة جنوباً نحو الحدود الأردنية والثانية غرباً نحو القلمون، واللافت أنّ وسائل الإعلام التي نشرت السيناريو السوداوي لحمص وبغداد تحدّثت فقط عن اقتراب وحدات «داعش» من الحدود الأردنية وتجاهلت الاقتراب من القلمون علماً أن المسافة الفاصلة هي واحدة قرابة المئتي كليومتر من الصحاري غير المأهولة.
– يستطيع المدقق استبعاد فرضية التوجه نحو الحدود مع الأردن إلا بعد الفشل في بلوغ الهدف الأصلي للحملة المدعومة من التحالف التي يقوم بها «داعش»، والتي استدعت تسهيل دخوله إلى الرمادي وتدمر، والهدف هو جبال القلمون، النقطة التي يقترب عبرها «داعش» من البحر المتوسط والتي تفصلها مساحة مفتوحة لحوالي خمسين كلم عن جرود الضنية الواقفة فوق البحر، والتي حاول تنظيم «القاعدة» الأم، أن يقيم فيها نقطة انطلاق العام 2000.
– وصول مقاتلي المقاومة إلى خطوط انتشار «داعش» في القلمون يعني أنّ حرباً مفصلية ستدور رحاها في المناطق الفاصلة بين تدمر والقلمون، وأنّ المعركة الفاصلة مع «داعش» سوف تكون هناك حيث خلفية القوة الموجودة لـ«داعش» في القلمون ستكون تدمر وعبرها الرقة والرمادي والموصل، فالانتصار على «داعش» في القلمون سيكون انتصاراً على التنظيم في أم المعارك.
– من المفيد الإشارة إلى أن حروب «داعش» لا تزال تتبع الخط الذي يرسمه طريق الحرير الذي يعبر من أفغانستان حتى البحر المتوسط آتياً من الصين.
(البناء)