صعود الهويات الفرعية: وداعاً للدولة الوطنية؟ الياس فرحات
تحدث سياسي اميركي مخضرم في مجلس خاص انه زار الشرق الاوسط مرات عديدة في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وكان يسأل مَن يلتقيهم عن انتمائهم فيتلقى الجواب: «أنا عربي» بغض النظر عن الدولة التي ينتمي اليها المجيب او الدين الذي يعتنقه. ثم استأنف زياراته في العقد الثاني من الالفية الثالثة ليسأل عن الانتماء ويتلقى الجواب: «انا مسلم». في ثلاثة او اربعة عقود، تغيّرت هوية معظم الناس في المنطقة من «عرب» الى «مسلمين».
لقد تراجعت الهوية العربية فعلاً بمفهومها القومي وانحسرت الى القطرية بعد فشل المشروع القومي العربي الذي حمله جمال عبد الناصر وسقط بعد هزيمة 1967 ثم غاب مع رحيله العام 1970. في اوائل عهد السادات، انتشر شعار «دائماً مصر أولاً» وانتشرت الهوية الوطنية القطرية في باقي الدول العربية وتوسّعت على حساب الهوية القومية العربية. استمر التراجع وتفكك الهويات، فبرزت هويات فرعية اثنية ودينية مثل الهوية الكردية في العراق والمسيحية في لبنان والامازيغية في بلاد المغرب العربي والقبطية في مصر.
ادى الانكفاء الى الهوية الفرعية الى نشوب حروب أهلية وانشقاقات عن الدول بسبب إعلاء الانتماء الفرعي على الانتماء الوطني. فصار الكردي العراقي ينظر الى نفسه على انه مواطن كردي أكثر مما هو مواطن عراقي وباتت مشكلته مع الدولة العراقية ومع باقي مكونات الوطن. والامر نفسه حدث في لبنان حيث باتت مشكلة كل مكون هي مع شريكه اللبناني الآخر ومع نصيره الخارجي في غياب للهوية الوطنية او المصلحة الوطنية، الا في الخطابات والادعاءات الفارغة. انتشرت في لبنان وفي سوريا ومصر ودول عربية أخرى شعارات «كل بلد أولاً» اي الاردن اولاً ولبنان اولاً ومصر اولاً و.. وهو لا يعني التمسك بالوطنية بقدر ما يعني طريق خروج وتهرُّب من ازمات واستحقاقات وطنية داخلية او وضع الرؤوس في الرمال مثل النعام للهروب من التهديدات الخارجية. كما انتشر في الحروب الراهنة في سوريا والعراق سيل من التسميات لتنظيمات ووحدات عسكرية وميليشيات مستوحاة من رموز الهويات الفرعية المذهبية.
دخلت الهوية الدينية على الخط منذ إنشاء الأحزاب الدينية وأبرزها «الاخوان المسلمون» و «حزب التحرير» مطلع القرن الماضي، لتظهر بعدها نسخ في بلدان عربية وإسلامية. بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. تراجعت الاحزاب المدنية والوطنية والقومية والعلمانية لتحل مكانها احزاب دينية، اما صريحة او مقنعة او محجبة (معظم الأحزاب اللبنانية هي دينية مع حجاب وجميع الأحزاب العراقية دينية ومعظم المعارضة السورية دينية وفي مصر يسيطر الاخوان المسلمون والسلفيون على الخطاب السياسي في غياب أحزاب مدنية وازنة. في الخليج وإيران الدولة هي علناً دينية، وفي تركيا «الاخوان المسلمون» يحكمون بحجاب «العدالة والتنمية»…). إحلال الهوية الدينية، وهي هوية فرعية بالمقارنة مع الهوية الوطنية، أفسح المجال لصعود الهويات الدينية الفرعية او ما يُعرَف بالهوية المذهبية وتوسيع نطاق استخدام هذه الهوية في النزاعات القائمة اليوم في الدول الإسلامية. مع صعود الهوية الدينية الفرعية ظهر التكفير والتنفير، وهو أخطر ما نجم عن تفسخ الهوية الوطنية، وجرى استحضار حوادث متقطعة من التاريخ الإسلامي تختلف عن السياق العام التاريخي في التعايش والتسامح الذي أبقى عشرات الأديان والطوائف في الدول الإسلامية متآلفة مدة أربعة عشر قرناً. وتمّ الاستناد إلى الحادثة الاستثناء والى الفقه الاستثناء من أجل صنع أساس عقائدي لهويات فرعية، اتخذت من التكفير والتنفير سلوكاً في التعامل مع الآخر.
استفادت السلطة الحاكمة في بعض الدول الإسلامية من صعود الهويات الفرعية المذهبية من أجل التحريض ضد معارضيها واتهامهم بخدمة مذاهب منافسة، وغالباً في إطار ردّ على مطالب هي في الغالب سياسية واجتماعية واقتصادية. شكل الاتهام بالتنكّر لـ «هوية المذهب» مخرجاً للسلطة من كل ما تتعرّض له من انتقاد. أسهمت كثافة الاعلام التحريضي، خصوصاً في الفضائيات في تشكيل رأي عام، همه الاساسي الحديث عن المذهب الآخر والنظر في تكفير المذاهب الأخرى والتنفير منها، وأدّت الى ابتعاد الجمهور تماماً عن البحث في التحديات الاقتصادية والسياسية والتنموية. كما اسهمت الهوية المذهبية المتفرعة عن الدينية في اختزال جميع المشاكل التي تعاني منها الدول والمجتمعات من اجل مواجهة التهديد المذهبي، وهذا ما أطال عمر الانظمة الحاكمة ووفر لها قاعدة شعبية كبيرة تساندها في الدفاع عن المذهب، بغض النظر عن فقدان رغيف الخبز او الحرية او البقاء تحت الاحتلال الإسرائيلي وتهديده.
في التدرج التنازلي، هوت الهوية من قومية جامعة الى وطنية قطرية ثم فرعية دينية، وتفرّعت الى فرعية مذهبية. اذا كانت الهوية القومية لم تطعم خبزاً احياناً او توفر حرية، وفرضت في احيان كثيرة بقوة العسكر ورجال الأمن، فان الهويات الفرعية صادرت الحريات والعقول واصبح المواطن العربي حبيس سجن فكري ومادي. تحت شعار استعادة امجاد الدولة الاسلامية انحرف كثيرون في فهم أسباب قوة الدولة الاسلامية التي كانت تاريخياً منفتحة على الثقافات والأعراق الأخرى، وجرى تحويل اسباب ضعف الدولة الاسلامية وتفككها الى اسباب قوة. ما معنى استحضار فقه عصر الانحطاط واستنساخه بدلاً من فقه عصر القوة العربية الإسلامية، اي تحديداً ابن تيمية بدلاً من ابي حنيفة؟
ما هي طريق الخروج من هذه الأزمة المدمّرة؟ انها معاكسة تماماً لطريق الدخول فيها. تتحقق حرية المذهب في إطار الوحدة الدينية وحرية المعتقد في إطار الوحدة الوطنية، وليس في إطار الهويات الفرعية. من المبكر الوصول الى الحالة القومية الجامعة لأن الطريق دونه عقبات كبيرة، لكن الحالة الوطنية السليمة تبقى هي المنطلق لتصويب الانحراف الذي أصاب الدولة والمجتمع والفرد في العالم العربي وبعض العالم الإسلامي. المطلوب إعلاء الهوية الوطنية القطرية على الهويات الفرعية وتحديداً الدينية والمذهبية، وتكريس مبدأ المواطنة بالحقوق والواجبات، وتحديث القوانين الوضعية لتأمين التمثيل الصحيح للارادة الشعبية، وصون الحريات والتوزيع العادل للثروة الوطنية. اما إذا استمرّ صراع الهويات الفرعية والمتفرّعة، فسوف يبقى العالم العربي في أتون يتجدد وقوده، ويحرق ما تبقى فيه من تراث وحضارة