فيصل كرامي في ذكرى اغتيال رشيد كرامي: لم نسامح ولن ننسى
وجه الوزير السابق فيصل عمر كرامي كلمة في الذكرى ال 28 لاغتيال الرئيس الشهيد رشيد كرامي، من دارته في طرابلس ، قال فيها: “يا هذا الأول من حزيران، يا هذا المجلبب بالغصص والحرق، ما بين قهر على شهيد ضاع دمه، وحزن على كبير تضيع تضحياته، تصغر كل المصائب أمام وطن يتلاشى وأمة تتداعى. ولكن، لن تنطفىء شعلة نور يسقيها دم طاهر، ودم رشيد كرامي دم طاهر. ولن ينكسر ايمان راسخ دعامته ضمير طاهر، وضمير عمر كرامي هو ضمير طاهر. ولن أكون، بإذن الله، أقل من جندي في مسيرة ذاك الدم، وذاك الضمير. وهل دون ذلك تكون الأمانة؟ أمانة رشيد التي حملها عمر كرامي حتى آخر لحظة في حياته. وأمانة عمر التي سأحملها حتى آخر لحظة في حياتي”.
أضاف: “في الذكرى الثامنة والعشرين لاستشهاد رشيد كرامي، أكرر ما قاله عمر كرامي في مثل هذا اليوم، وبشكل حرفي، وأقول لكم، ليس رشيد كرامي مجرد ذكرى، وليس مجرد فقيد عائلة ومدينة ووطن وحسب. انه الحاضر في الأجيال فكرا ونهجا وسلوكا، خصوصا حين تتساقط القيم والمبادىء على منحدرات هذا الزمن الضحل، فيتعملق رشيد كرامي قيما ومبادىء، هو الذي عاش ومات في سبيل تلك القيم والمبادىء. لقد ترك لكم رشيد كرامي إرثا تستعينون به على الزمن الصعب، وليس هناك أصعب من هذا الزمن. استحضروا الرشيد وإرث الرشيد، فنحن أحوج ما نكون اليهما: حين يعلو صوت الغرائز يجنح الرشيد الى صوت العقل. حين يستشري التطرف يقود رشيد كرامي مسيرة الإعتدال. حين تصبح الكلمة للشارع وقوى الشارع ينحاز الرشيد الى الدولة ومؤسسات الدولة. حين تسود لغة العنف يعتصم الرشيد بلغة الحوار. وحين يكون الوطن في خطر يصبح الرشيد درع الوطن، ويتلقى الخطر بصدره زودا عن الوطن. ورشيد كرامي لم يقل كل ذلك، لقد فعل كل ذلك، ومات شهيدا مظلوما من أجل كل ذلك”.
وتابع: “بهذه الكلمات اختصر عمر كرامي المعنى الحقيقي لذكرى رشيد كرامي، وأودعنا وصيته حين قال: أنا عمر عبد الحميد كرامي، عهدا علي، وعلى حملة الراية من بعدك وبعدي، أن نبقى راسخين في هذه الأرض الطيبة، ثابتين على مبادئنا الوطنية والقومية، لا نبدل تبديلا. وبعد الوصية أضاف عمر كرامي انذاره الحزين الأخير، وهو آخر ما قاله في هذه الدنيا: يا أبناء وطني، يا أبناء مدينتي، يا أهلي وقومي وبني جلدتي، ما أحوجنا الى رشد الرشيد. خصيمكم الله ان قتلتم ما بقي من ذكرى الرشيد، فكأنكم تقتلون أنفسكم وتقتلون مستقبلكم وتقتلون أبناءكم، وعندئذ لا معنى لذكرى رشيد كرامي حين نصبح جميعا شهودا على ذكرى لبنان”.
وقال: “نحن اليوم أمام واقع لبناني مأزوم، وواقع عربي منكوب، وواقع إقليمي متوتر، وواقع دولي مضطرب. يمكنكم الاستنتاج أننا نواجه واحدا من أخطر وأشرس مفترقات التاريخ، لا سيما أن ساحة الصراع هي منطقة الشرق الأوسط، وأن أدوات الصراع هي شعوب الشرق الأوسط، وأن وسائل الصراع هي بالدرجة الأولى اللعب على الأفكار والمشاعر والعقائد والعواطف وكل هذا الأرث الحضاري الذي تمتاز به بلدان وشعوب المنطقة، وتظهير كل ذلك وكأنه تناقضات طبيعية تعيد رسم الأقدار والمصائر بأقصى الأشكال دموية وهمجية وجنونا. أما أهداف الصراع، فيختصرها هدف وحيد، هو وضع اليد على ثروات وامكانات ومستقبل هذه المنطقة عبر عملية تدمير منهجي لكل بناها الأنسانية والحضارية، وعبر تفكيك الروابط التي تجمع بين أهلها، وعبر انعاش أحقاد وكراهيات وتعميقها وتجديدها، بحيث تشكل مصدرا دائما للنزاع والتناحر والتقاتل”.
أضاف: “منطقتنا هي مهد الرسالات السماوية، كل الرسالات السماوية، والمطلوب اليوم ولأول مرة في التاريخ البشري أن نستعيد الجامع بين هذه الرسالات وهو كبير وضخم وأساسي، وبكل يقين أقول ان كل الإختلافات ما بين الأديان والطوائف والمذاهب هي لا شيء أمام القاعدة الإيمانية الواحدة التي تجمع بين المختلفين، وهي الإحتكام الى القيم الانسانية والأخلاقية السامية، ونبذ العنف، لا بل تحريمه، في غير موضعه وزمانه ومكانه، والتفاعل مع الآخر، أيا تكن معتقدات هذا الآخر، على قاعدة احترام الاختلاف واحترام التنوع والقدرة على العيش معا، وهو ما فعلناه عبر القرون. وبلدنا لبنان، هو كما نتغنى به، نموذج مصغر وجميل لهذا التلاقي الانساني والحضاري في هذا الشرق. ولا غرابة أن يتم ضرب هذا النموذج، بمهارة واتقان على مدى سنوات، لكي نصل اليوم الى بلد يشبه كل شيء إلا نفسه، ويقبع على هامش التاريخ والجغرافيا منتظرا الضوء الأخضر من هنا او هناك لكي ينتحر وينتهي”.
واردف: “دعوني أقول لكم، ان شهيد لبنان الكبير الذي نحيي اليوم ذكراه، هو رجل جسد في حياته، ويجسد في إرثه الوطني والقومي، شكلا نبيلا من أشكال مقاومة هذا الطوفان الهمجي الذي يهددنا جميعا في هذه المفترقات. لقد قاوم رشيد كرامي، ببسالة، كل مشاريع الخلاف والانقسام بين العرب، وحين هبت رياح الخلاف والانقسام بين بني وطنه فإنه لم يتردد في مواجهتها بالكلمة والموقف والدم. نعم لقد دفع دمه في سبيل القضية التي اعتبرها قضية حياته. ورشيد كرامي أدرك مكامن الضعف والهشاشة في البنية اللبنانية، فسعى طوال حياته السياسية والوطنية الى وضع الأسس السليمة لبناء دولة ومؤسسات، ولكن، وبكل مرارة، فشل هذا الوطن في أن يشبه أحلام كباره وشهدائه، فشل في أن يكون على مقاس رشيد كرامي ورفاقه العظام الذين آمنوا بلبنان ومنحوه أعمارهم”.
وتابع: “ها نحن أيها الشهيد الكبير، ما زلنا مختلفين على كل شيء، على الأدوار، وعلى الأحجام، وعلى المعايير والأخلاق والقيم. نحن مختلفون على القانون والقضاء والجيش والتنمية والإقتصاد. نحن مختلفون على نظامنا السياسي، وعلى نظامنا الاجتماعي، ومختلفون على تحديد عدونا، ومختلفون على أولوياتنا ومصالحنا. نحن مختلفون على التاريخ والمستقبل. ان كل هذه الاختلافات تحولت الى مصدر شرور تهدد لبنان بزوال وشيك”.
وقال: “إني في هذه الذكرى، أجدد التأكيد على الثوابت التي لن أحيد عنها، مكتفيا بعرضها بعناوينها العريضة دون الغوص في التفصيل. أولا، ليس هناك قوة تحت السماء تستطيع أن تأخذني من موقعي الوطني والقومي، وما يأمر به ديني، الى أي موقع آخر، مهما كانت التضحيات. ثانيا، لا قضية لهذه الأمة قبل قضية فلسطين، وقبل استرداد الحقوق والكرامات، وكل القضايا المفتعلة الأخرى هي هدر للدماء وللطاقات وللثروات. ثالثا، لا عدو لهذه الأمة سوى العدو الأسرائيلي الغاصب للأرض والمنتهك للمقدسات، وكل تضييع لهذه الحقيقة يصب في خدمة هذا العدو. رابعا، لا نهوض لهذه الأمة إلا في توحيد الكلمة والموقف والجهود الصادقة والإرادات المخلصة، لمواجهة هذه الفتنة الكبرى التي تحمل عنوانا واحدا واضحا، هو تدمير وتفتيت الشعوب والمجتمعات. خامسا، ان مقاومة اسرائيل، ومقاومة كل عدوان يخدم اسرائيل، ومقاومة كل ضلال يضرب نسيج المنطقة وتنوعها وحضاراتها واعتدالها وتاريخها ومستقبلها، هو حق وواجب، ونحن أهل للحق والواجب معا”.
أضاف: “في هذا السياق، نحن مطالبون اليوم بتوفير كل الدعم المعنوي والمادي لجيشنا الوطني للقيام بالمهام الوطنية الكبرى الملقاة عليه، وأبرزها الدفاع عن الحدود وصد الخطر الداهم على الحدود والوقوف في وجه الارهاب، وتحرير كل الأراضي المحتلة. سادسا، لا يمكن للبنان أن يصبح وطنا ودولة ومؤسسات قبل إلغاء اللعنة الكبرى، المسماة الطائفية بكل أشكالها، وخصوصا السياسية، وهو أمر سنناضل في سبيل تحقيقه بالحوار والتفاهم، مهما طال الوقت. سابعا، لم نسامح ولن ننسى، وقاتل الرشيد مرذول الى يوم الدين، لكن الأهم أن يعي اللبنانيون أن العفو لا يعني البراءة، وان هذا العفو الباطل عن قاتل رشيد كرامي هو الذي أسس لنسف القضاء ونسف العدالة ونسف الدولة اللبنانية. لقد اغتيل رشيد كرامي وهو على رأس مجلس الوزراء، وأنا لا أستوعب، مثل الكثير من اللبنانيين الشرفاء، كيف ولماذا تتجاهل الدولة اللبنانية هذه الحقيقة، وكيف تتعامل مع قاتل رشيد كرامي بهذه الخفة التي لا تليق بالدول، وفي الأصل هم لم يجدوا محكمة في لبنان او غير لبنان تستطيع أن تمنح هذا القاتل براءة مزيفة، فلجأوا الى أغرب عفو في التاريخ، والعفو لا يمنح إلا لمجرم، وسيبقى هذا العفو السياسي إدانة للقاتل، الى أن يأتي زمن يكون فيه للعدالة رجال ودولة”.
وختم: “أما بعد، يا حبيب طرابلس وشهيدها، مدينتك لن تنزلق الى المهالك، مدينتك لن تخلف معك موعدا، ولن تخلف لك عهدا. مدينتك، نهبوا منها روح الأمل، وحلم التغيير، والبحبوحة والنزاهة والإحتشام، بل حتى نهبوا ضميرها وصدقها وبساطتها وعروبتها، ولكنها أبت أن تستسلم. طرابلس يا رشيد، سل عنها عمر، سيقول لك: أخذوا منها كل ما تملك، إلا الكرامة. وتبقى لنا الكرامة”.