“السر المدفون” وعظمة التضحيات
فاطمة طفيلي
تحل الذكرى الخامسة عشرة على تحرير جنوب لبنان وبقاعه عام 2000 والمقاومون ما يزالون في الميدان وما تزال اليد على الزناد، بعدما تعددت الجبهات، وإن تغيرت وجوه العدوان واسماؤه على مدى الحدود والجبهات.
أيام خمسة حُفرت في تاريخ لبنان بأحرف من عز وإباء، فكانت خلاصة تجربة مضيئة تضافرت فيها الجهود والإرادات وتوجتها أعراس نصر معمد بدماء الشهداء وتضحيات الأبطال.
أسرار كثيرة اختزنتها ذاكرة الأهل في قرى الجنوب والبقاع الغربي، ولا سيما تلك المتاخمة للحدود مع المحتل، والتي نالها القسط الاكبر من الاعتداءات والمجازر منذ نشوء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، أسرار، لا بد ستجد يوما ما طريقها الى الإعلان، وإن عبر قصص يرويها الأجداد للأحفاد، لتستمر حكاية مقاومة كانت الأولى بتحقيق نصر مبين على عدو مغتصب. وقد احترف الأهل في القرى والبلدات المحتلة فنون الكتمان ورعوا بأساليب التحايل على العدو لحماية المقاومين واحتضانهم ضنا بسلامتهم وحرصا على الهدف الاسمى للمواجهة، والذي لم يخامرهم الشكُّ يوما بإمكانية تحقيقه، تحرير الارض وتطهيرها من دنس الاحتلال، مهما طال الزمن وغلت التضحيات.
“أبو زينب”، أو عامر كلاكش اسمه الحقيقي، مقاوم شاب من قرية دبّين الجنوبية، واحد ممن رسموا بتضحياتهم أبهى صور الفداء بعمليته الاستشهادية عام 1985 والتي استهدفت مركز قوات الاحتلال الاسرائيلي في بلدة الخيام، فقتل منهم باعترافهم ضابطين وثمانية عشر جنديا. ومنذ ذلك الوقت بقي الاحتلال يبحث عن هوية مقاوم بات اسمه أيقونة سكنت القلوب واحتلت صدارة كل بيت من بيوت القرية، فيما سر هويته الحقيقية مدفون في قلب والدة صابرة جبارة استطاعت كتمانه، بالشراكة مع شقيقه رياض وشقيقته نوال، وأخفته حتى عن والده، حماية للعائلة من عدوانية الاحتلال وبطشه. 14 عشر عاما والوالد مؤمن بأنه سيرى ابنه العائد من الكويت ذات يوم، إلى أن حل أوان التحرير عام 2000، وأسرت له الوالدة بأنها لم أشفقت عليه من ألم الفراق.
“السر المدفون” فيلم لبناني بلهجة جنوبية مقتبس عن حكاية هذا المقاوم ابن التسعة عشر ربيعا، والذي برع في تجسيد شخصيته الممثل الصاعد علي كمال الدين، فقدم لنا مثالا لمقاوم شجاع لم تجرفه الحماسة للاستشهاد في سبيل الوطن والاهل، ولم تنسه ذاك البعد الانساني الاصيل، فغامر في اللحظات بنفسه وبعملية أمضى أشهرا في التخطيط لها، وامتنع عن الاقدام ليفسح الطريق امام باص مدرسي ينقل اطفالا ليبتعد بسلام قبل التنفيذ.
الفيلم الذي أخرجه علي غفاري وانتجته شركة الارز للإنتاج الفني، نجح في أن يكون علامة فارقة في الانتاج السينمائي اللبناني المؤرخ لجزء بسيط من مسيرة مقاومة حررت الأرض ودافعت عن أبنائها.
بين بساطة المشهد ودقة التعبير أجاد الممثلون بتجسيد شخصياتهم بحرفية عالية وأداء أقرب إلى الوقائع الحقيقية للأحداث، فكانت كارمن لبّس بدور إنصاف والدة الشهيد مثال الأم القوية الصابرة والقادرة في آن على التحكم بانفعالات عميقة، أوصلتها بتعبيرات صمتها الصارخ وقسمات وجهها. وكم كان معبرا مشهد دقِّ اللحمة على البلاطة، هذا التقليد القروي المواكب للاحتفاليات والأفراح، بالتزامن مع مشاهد العملية الاستشهادية، وصورة الأم وهي تفرغ بمدقتها كمّا من الغضب الممزوج بالفخر والالم، وكأني بها تتشارك وابنها الذاهب إلى الاستشهاد كل لحظاته الأخيرة، تشدّ عزيمته وتقوِّيه على الأعداء. وبذات الحرفة والصدق جسَد الممثل عمّار شلق دور الوالد توفيق، الحانق على الاحتلال، الناقم على عملائه والخائف على عائلته، كذلك كان باسم مغنية بدور عادل الشاب القوي، الذي لم تحل رغبته ببناء عائلة بعيدا عن المشاكل دون انخراطه في العمل المقاوم، عندما وعى حقيقة الاحتلال وعرف باستشهاد شقيقه في مقاومته، أما يوسف حدّاد فأدى بهدوء الواثق ورباطة جأشه دور أبو خليل أحد ضباط المقاومة، وكان هادي فخر الدين مثال المقاوم المضحي الذي كشف تعاونه مع المقاومة وغامر بحياتها لإنقاذ زوجة عادل كلاكش وجنينها من انتقام الضابط الصهيوني، الذي جسده بصدق كميل متى، والجندي اللحدي الذي تميز بتجسيده أغوب دجورجيان.
باختصار “السر المدفون”، الذي بدأ عرضه في اليوم الأول لذكرى عيد التحرير والمقاومة الخامسة عشرة، أي الحادي والعشرين من أيار، فيلم يستحق المشاهدة، فهو صورة مصغرة عن معاناة شعب استمرت عقودا، من وطأة الاحتلال وجبروته وفظاعات عملائه، وحكاية مشرفة لمقاومة شعبية عنيدة انطلقت من رحم القهر والمعاناة، فتحدَّت المستحيل وتمرّست في فنون القتال والمواجهة بإرادة أبنائها وحكمة قيادتها، إلى أن كان نصر تموز عام 2006 على أعتى قوة في تاريخنا المعاصر، على الاقل حنى بداية عصر الدواعش، فصلا ثانيا من فصول ما تزال أحداثها تتوالى، منسوجة بصبر وأناة على نول تضحيات عظيمة وبطولات جبارة ستبقى مستمرة حتى انجاز التحرير التام ودحر كل معتدٍ وغاصب…