الانتخابات التركية: الأكراد بيضة القبضان محمد نور الدين
ليس من صوت يعلو على صوت المعركة الانتخابية. بعد أسبوعين بالتّمام تجري الانتخابات النيابية العامة في تركيا. تجري مرة كل أربع سنوات. ومنذ العام 2002 و «حزب العدالة والتنمية» يهيمن على المشهد السياسي، الرئاسي والنيابي والحكومة، والبلدي. ليس من انتخابات بعد خسرها بزعامة رجب طيب أردوغان، ومعظمها بأرقام عالية ونسب كبيرة وفروق شاسعة عن خصومه.
إذا أمعنا في أسباب النجاح المتواصل فلن نجد صعوبة في تحديدها. التنمية الاقتصادية أفاد منها الجميع، بعدما كان الاقتصاد منهاراً بالكامل. الاستقرار السياسي عبر التفرد بتشكيل الحكومات. لا ائتلافات ولا مماحكات. تباينات طبيعية داخل الحزب لكنها غير مؤثرة على تماسكه، خصوصاً في ظل وجود شخصية أردوغان الصارمة والحادة والصدامية، والتي كانت تنجح في تنظيف الطريق من أية عوائق، حتى لو كان اسمها عبد الله غول، كما حدث منذ سنة ونصف السنة مع تصفيته من الحزب والحكومة بُعيد انتهاء ولايته الرئاسية.
ونجاح أردوغان كان أيضاً بسبب وقوف كتلة صلبة وراءه تعادل حوالي 40 في المئة من الناخبين، هي النواة الصلبة للمحافظين المتدينين الإسلاميين، الذي لا همّ لهم لدى التصويت سوى منع عودة العلمانيين وقمعهم للحالة الإسلامية. وفي ظل عدم وجود بديل إسلامي لأردوغان، فإن التصويت حتمي له.
لقد حاول فتح الله غولين أن يكون البديل، ليس كزعيم سياسي بل كحالة تبلور زعامات أو ائتلافات سياسية لدى الآخرين، لكنها لم تنجح بسبب تصدّي أردوغان لها، وتطهير الدولة بكل مؤسساتها من معظم الكوادر المؤيدة لها حتى داخل الجيش. لذا فإن الصوت الإسلامي كان يصب في غالبيته لمصلحة أردوغان. أما المعارضة فحدّث ولا حرج، في ظل انقساماتها بين علماني وقومي وكردي.
بعد أسبوعين سيكون الناخبون أمام استحقاق نيابي جديد لكنه، رغم كل ما ذكرنا آنفاً، قد لا يكون هذه المرة محسوم النتائج مثل سابقاته. بل إن العنوان الأكبر الذي يسود المعركة الحالية هو عدم الوضوح والغموض النسبي. ونقول النسبي لأن استطلاعات الرأي لا تزال تعطي «العدالة والتنمية» المرتبة الأولى بنسب بين 40 و45 في المئة، وبفارق كبير جداً عن الحزب الثاني، أي «الشعب الجمهوري»، الذي تعطيه الاستطلاعات ما بين 25 و 29 في المئة. أما الحزب الثالث فهو «الحركة القومية»، الذي تحوّل إلى رقم ثابت في المعادلة السياسية، بعدما كان حتى العام 2007 تارة خارج البرلمان وتارة داخله. وتعطيه استطلاعات الرأي الآن ما بين 15 و19 في المئة.
في المحصّلة العامة بالكاد يصل مجموع أصوات حزبَي «الشعب الجمهوري» و «الحركة القومية» مجتمعَين أصوات «حزب العدالة والتنمية». وهما اجتمعا في الانتخابات الرئاسية ضد أردوغان عبر المرشح أكمال الدين إحسان أوغلو، لكنهما فشلا فشلاً ذريعاً.
لا يختلف اثنان على أن مفتاح التحكم بالخريطة السياسية المقبلة هذه المرة مرتبط بشكل وثيق بالنتائج التي سيحققها «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي المؤيد لزعيم «حزب العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان.
فالأحزاب الكردية المؤيدة لأوجلان كانت تتقدم في السابق كمرشحين مستقلين للفوز ببعض المقاعد النيابية قد تصل إلى 30 أو 35 نائباً من مجموع نواب البرلمان الـ 550. وبعد أن يدخل هؤلاء البرلمان بصفة مستقلين يعودون للإعلان عن تشكيل حزبهم، ليتمكنوا من تشكيل كتلة برلمانية يفوق عددها العشرين نائباً ما يمكنهم من أن يتمثلوا في اللجان والحصول على مساعدات من الدولة.
الوضع اختلف هذه المرة إذ إن «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي قرّر أن يخوض الانتخابات بصفته حزباً وليس كمرشحين مستقلين. وهذا وفق النظام الانتخابي التركي يتطلب أن يحصل على عشرة في المئة من أصوات الناخبين على مستوى كل تركيا. هذا الخيار يعتبر مغامرة حساسة جداً، ومؤثرة جداً في نتائجها، سواء فاز أم لم يفُز.
أولاً، إذا فاز الحزب بالعشرة في المئة وما فوق، فهذا يعني أنه قد يحصل على مجموع من خمسين إلى ستين نائباً على الأٌقل، في ما إذا فشل فسيبقى خارج البرلمان كلية.
ثانياً، في حال فوزه بالعشرة في المئة فهذا مهم جداً لجهة نتائجه السياسية. فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان يريد من هذه الانتخابات أن تكون استفتاء غير مباشر على الانتقال إلى النظام الرئاسي. وهذا يتطلب تعديلاً في الدستور يحتاج إلى ثلثي المقاعد، أي 367 من أصل 550 نائباً مجموع أعضاء البرلمان. وإذا لم يحصل على هذا الرقم فعليه أن يحصل على الأقل 330 مقعداً هو الحد الأدنى الضروري للموافقة على إحالة أي مشروع لتعديل الدستور إلى استفتاء شعبي لتكون الكلمة الأخيرة للشعب.
إما إذا لم يحصل «العدالة والتنمية» على الـ 330 مقعداً فسيحتاج إلى تأييد نواب من أحزاب أخرى، والدخول بالتالي في مساومات قد تُفضي وقد لا تُفضي إلى نتيجة.
وفي حال نجاح «الشعوب الديموقراطي» بالدخول إلى البرلمان فستتعقد مهمة أردوغان في تغيير النظام، كما سوف تواجه الحكومة صعوبات في التفرّد بالقرارات الرئيسية. لذا فإن مهمة أردوغان الرئيسية هي الضغط لمنع «حزب الشعوب الديموقراطي» من الفوز بالعشرة في المئة، وإبقائه بالتالي خارج البرلمان، لسبب وحيد متعلق بالنظام الانتخابي في تركيا. إذ إن فشل «الشعوب الديموقراطي» بتخطي عتبة العشرة في المئة، يعني أن ما كان سيحصله من مقاعد نيابية في المناطق التي كان سيفوز بها ستجيّر إلى الأحزاب الأخرى الناجحة، وبحسب نسبة ما نالته هذه الأحزاب من أصوات. أي إذا فاز الحزب الكردي بـ 9 مقاعد عن محافظة ديار بكر على سبيل المثال، لكنّه فشل على مستوى تركيا بالفوز بعشرة في المئة، فإن النواب التسعة في ديار بكر الذين كان يُفترض أن يكونوا له سيذهبون تلقائياً إلى الأحزاب الفائزة على مستوى تركيا، وبنسبة تعادل نسبة ما نالته في ديار بكر.
وبما أن أحزاب المعارضة من «الشعب الجمهوري» إلى «الحركة القومية» لا حضور لها في المناطق الكردية، وبما أن «حزب العدالة والتنمية» يأتي في المرتبة الثانية بعد «الشعوب الديموقراطي» في المناطق الكردية، فإن غالبية، إن لم يكن كل المقاعد التي كانت ستكون إلى «الشعوب الديموقراطي»، ستصبح من حصة «العدالة والتنمية، وستذهب المقاعد التسعة الخاصة بالحزب الكردي إلى الحزب الحاكم مجاناً. وقد حصل هذا الأمر في العام 2002، عندما فاز «العدالة والتنمية» بـ 34 في المئة من الأصوات في تركيا ككل، لكنه حصل على 65 في المئة من مقاعد البرلمان، بعدما نجح حزب واحد آخر هو «الشعب الجمهوري» بتخطي عتبة العشرة في المئة.
من هنا المصلحة الأكيدة لأردوغان بأن يفشل الحزب الكردي بدخول البرلمان، ليستولي على مقاعد إضافية مهمة من دون عناء، وبما يمكنه من ملامسة حتى عتبة ثلثي المقاعد في البرلمان لتنفتح الطريق عريضة أمامه لتعديل الدستور، وأن يصبح دستورياً الرجل الأول، لجهة الصلاحيات، في البلاد.
أما إذا نجح الحزب الكردي بدخول البرلمان فستنهار أحلام أردوغان في النظام الرئاسي، إلا إذا دخل في صفقة مع أحزاب، ولا سيما «الحركة القومية»، على أساس أن الحزب الكردي، في حال نجاحه، يرفض منذ الآن تغيير النظام في البلاد إلى رئاسي.
ومن أجل ضمان فشل «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي اتبع أردوغان سياسة النزول إلى المعركة بنفسه، وإقامة المهرجانات كما لو أنه هو رئيس «العدالة والتنمية»، برغم أن هذا يمنعه الدستور الذي يفرض على رئيس الجمهورية الحياد بين القوى السياسية. لكن أردوغان لا يعير اعتباراً للقانون، خصوصاً بعدما طوّع السلطة القضائية لمصلحته، رغم احتجاجات المعارضة المستمرة.
وإضافة إلى نزول اردوغان بنفسه إلى الساحة، فإن السلطة تعمل على فرض حالة من الترهيب على أنصار «الشعوب الديموقراطي»، حيث بلغ عدد الاعتداءات على مقار الحزب بين 23 آذار و19 أيار 2015، أكثر من 114 اعتداء، مقابل 7 على مقار «حزب العدالة والتنمية»، و4 على مقار «حزب الشعب الجمهوري» وواحد على «حزب الحركة القومية». ولم تعثر السلطات على مرتكبي الاعتداءات على مقار «الشعوب الديموقراطي».
كما أن أردوغان تحديداً يواصل استخدام المشاعر الدينية لإظهار أن «الشعوب الديموقراطي» ليس متديّناً، بل حتى ملحداً لكي يكسب الرئيس التركي أكبر نسبة ممكنة من أصوات الإسلاميين الأكراد. ورفعه للمصحف الشريف في أحد المهرجانات في مدينة سعرت الكردية مثال على استغلال الدين في السياسة، في بلد نظامه نظرياً على الأقل علماني ويعاقب القانون على منتهكيه.
لا تختلف برامج الأحزاب كثيراً بينها، وكلها تتحدث عن العدالة وتقديم الخدمات والمشاريع الضخمة، ولكن في الحيّز العملي هناك صراع سياسي مرفود بحساسيات اتنية أو مذهبية.
في المحصلة، إن ملامح الخريطة السياسية المرتقبة في تركيا، في هذا الاتجاه أو عكسه، بعد الانتخابات النيابية العامة، مرتبطة بشكل وثيق بنجاح أو فشل «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي بالدخول إلى البرلمان أو البقاء خارجه.
(السفير)