نحو إعادة بناء العروبة في مقاومة التوحش
غالب قنديل
تتعرض بلدان الشرق العربي لخطر كبير دائم منذ عام 1948 نتيجة زرع الكيان الصهيوني واغتصاب فلسطين وفي السنوات الأخيرة ومنذ احتلال العراق حتى اليوم يعصف بهذه البلدان تهديد الجماعات التكفيرية الإرهابية التي تحظى بمساندة ودعم العديد من الدول والحكومات في المنطقة والعالم ، والخطير ان دولا ساندت تلك الجماعات وأفعالها وقدمت لها الدعم والتغطية والمساندة بل وقدمت الحماية للجان ولمراكز وجمعيات دينية متطرفة في العديد من دول الغرب لتساهم عن طريقها في حشد معتنقي عقائد التكفير وإرسالهم إلى القتال في الشرق وخصوصا في سوريا ولبنان والعراق وكل ذلك يجري تحت ستار دعم ” الثورة ” والمطالب “الديمقراطية “.
يقوم التكفير أساسا على فكرة الإلغاء وعلى تصفية جميع المخالفين في الرأي أو المعتقد وهو أمر ظهرت ملامحه ونتائجه في صراعات واختلافات دارت في صلب التنظيمات التكفيرية كالقاعدة ومثيلاتها حيث لا مكان للاختلاف والتنوع ولا تعامل بغير حد السيف مع كل اعتراض او نقد او اختلاف وهذا ما تشهد به يوميات حياة الناس المقهورين والمعذبين في مناطق سيطرة تلك العصابات المتوحشة في العراق وسوريا وحيث تحمل اللبنانيون كثيرا من الخسائر نتيجة النشاط الإجرامي لتلك التنظيمات ولا يزالون.
الأكيد ان مستوى التقدم الحضاري والثقافي في بلدن الشرق العربي يناقض الدعوة التكفيرية الجاهلية لتعميم الردة إلى البربرية باسم الاسلام الذي بات أول ضحايا التكفيريين بصورته الحضارية وبما يدعو إليه من قيم إنسانية.
مجتمع الشرق العربي المتنوع الذي يهدده التكفيريون تميز تاريخيا بوحدة الحياة بين المسلمين والمسيحيين وعقيدة التكفير المستقدمة من خارج المشرق منذ حوالي خمسين عاما تغلغلت في اوساط متطرفة ومهمشة بالتحريض المتلبس لغة الدين وبالتمويل الذي يصطاد به شباب ساخط وبصورة موازية لأنشطة نشر عقائد التكفير في حلقات الدعوة عبر بعض المؤسسات أقيمت منذ التسعينات قنوات فضائية بالعشرات حظيت بدعم كبير في بلدان اوروبية ومولتها حكومات خليجية وهي تسيء إلى جميع سكان الشرق مسلمين ومسيحيين وتحرض على العنف والكراهية وما تزال تلك الفضائيات قائمة وتحظى بالرعاية على الرغم من الكلام الغربي الكثير عن محاربة الإرهاب وتوحيد الجهود الدولية في مجابهة هذه الآفة الخطيرة .
إن مساهمة المسيحيين في بلدان الشرق بحماية الهوية العربية والثقافة العربية وبمقاومة التتريك خلال الاحتلال العثماني منحتهم مكانة متقدمة في النخب المشرقية التي ناضلت من اجل الاستقلال وتقدمت الصفوف في الكفاح لمنع اغتصاب فلسطين ومقاومة الكيان الصهيوني وما ارتكبه من مذابح وما شنه من حروب عدوانية على بلدان المنطقة .
ما جرى في سوريا والعراق وفلسطين المحتلة يؤكد استهداف الإرهاب الصهيوني والتكفيري لمسيحيي المنطقة وذلك من خلال ما نفذ من مذابح ومن اعتداء على اماكن العبادة عبر إحراق الكنائس والأديرة ونهبها وتدميرها وبكل أسف أدار الغرب آذانه الصماء لجميع التنبيهات والدعوات التي أطلقها العديد من رجال الإكليروس والسياسيين من أبناء المنطقة والذين أخفقوا في إقناع القادة الغربيين بضرورة الكف عن دعم الجماعات التكفيرية أيا كانت الذرائع السياسية التي تستخدم في ذلك فالحصيلة هي تعميم المجازر وأعمال التدمير وسيادة التوحش .
الموقف الوطني المسؤول الذي تطرحه مواجهة التكفير يستدعي بناء وتعميم حالة عميقة من الوعي الثقافي والسياسي لهذه المخاطر وحيث يشكل التمسك بالوجود المسيحي وبشراكة الحياة وبالوحدة الوطنية في جميع الدول المستهدفة شرطا لا بد منه لدحر هذه الهجمة لأن ثقافة الوحدة والشراكة في الحياة الوطنية هي التي يمكن ان تؤسس بها مقاومة شعبية جذرية لخطر التكفير الإرهابي ولتعزيز الدولة الوطنية وقواتها المسلحة في مطاردة عصابات القتل والإرهاب والتدمير وانطلاقا إلى عمل وطني واسع أبعد من تقنيات التصدي للتهديد الأمني.
يمثل موقف الكنائس المشرقية ودورها في منطقتنا في هذه المرحلة احد المداميك البارزة لصمود الشرق ضد الإعصار العنفي والإرهابي الكبير وعبر ذلك الموقف تتلاقي روافد المقاومة التي تتصدى للإرهاب ولداعميه دفاعا عن التاريخ والجغرافيا وعن الإرث الحضاري العظيم لمنطقة هي مهد الديانات في العالم وتغتني كنوزها الحضارية والثقافية بذلك التنوع الحاضر في شراكة الحياة وفي نسيج الثقافة الشعبية والتقاليد التي توارثها الناس في تحركهم المشترك ضد المخاطر والتحديات على مر الزمان .
قبل مئة سنة نظمت المذابح ضد شعوب الشرق وعلقت المشانق لنخب الشرق الاستقلالية التي تصدت للمحتل العثماني واليوم تلتئم الصهيونية والعثمانية الجديدة مع التكفير الوهابي في حرب إبادة جيدة تطال جميع مكونات النسيج المشرقي وتهدد وجودها فلا يتسنى افتراض تحييد او استثناء لجماعة او فئة فما يطلبه الإرهاب التكفيري هو الطاعة والذمة تحت طائلة حز الرقاب وقطع الأيدي وهتك الكرامات والحرمات بلا رحمة ومصادرة الحريات وتعميم الموت.
ما لم تنطلق مقاومة شعبية قوية ضد الإرهاب والتكفير ستكون حصيلة موجات العنف هي التهجير الجماعي لتحويل الملايين المقتلعة من بلادنا إلى قوة عمل رخيصة في آلة الغرب الصناعي المتعثرة في أزماتها المالية والاقتصادية الخانقة حيث تعيش تحت وطاة ركود قاتل منذ سنوات ولذلك تصم الآذان ولا يتحرك المسؤولون الغربيون إلا عندما تلوح اخطار ارتداد الإرهاب إلى بلادهم وهم واهمون في افتراض حصر التهديد عندنا والنجاة من آثاره مهما فعلوا.
إن كلفة النضال للخلاص من ذلك الخطر هي أقل بكثير من تبعات الرضوخ والصمت والعزوف والأمر يتطلب حزما وشجاعة ووضوحا في مجابهة مظاهر التورط الغربي والإقليمي بجريمة تمزيق بلدان الشرق وتخريبها فأضعف الإيمان هو الإفراج عن القرارات الأممية المانعة لتهريب الإرهابيين والأسلحة والأموال لصالح عصابات التكفير بجميع منوعاتها الإجرامية إلى العراق وسوريا بصورة خاصة.
هذا ما تؤكده التجربة التاريخية ولذلك فالكتلة المشرقية القادرة على إنقاذ بلداننا من المهالك الدموية تضم جميع فئات الشعب دون استثناء وتستدعي تعميما لثقافة احترام التنوع والوحدة الوطنية في سبيل المصير الواحد الذي يفترض نبذ العصبيات الانقسامية واحترام الخصوصيات في تنوعنا الغني وكل وطنية لبنانية او عراقية او سورية لا تقوم على هذا المبدأ لا يمكن ان تصل بنا إلى المآل الذي نرجوه في صنع مستقبل الأجيال المقبلة .
أبعد من السياسات الضيقة ومن العصبيات الممزقة لا بد من نسج كتلة شعبية تضم جمهور المسلمين والمسيحيين وتستلهم ملحمة مقاومة التتريك وامجاد المعارك الوطنية الكبرى في مطلع القرن الماضي حيث كانت شراكة عضوية من جميع الناس في الكفاح ضد المستعمرين الذي يقفون بجميع قدراتهم خلف مشاريع الفتنة والتدمير في الزمن الحاضر.
المسيحية المشرقية التي ساهمت في إطلاق الروح القومية والوطنية وفي تأسيس فكرة العروبة المعاصرة والنزعة الوطنية التحررية مستدعاة بنداء التاريخ من جديد إلى المشاركة في حركة نهضوية مشرقية تضم جميع أبناء المنطقة بروح تكريس التنوع الغني والتلاقي على عهود الدفاع عن الأوطان وصد العدوان الإجرامي للإرهاب التكفيري الذي فضحت احداث الجنوب السوري مدى تلاصقه واندماجه بالعدوانية الصهيونية التي تقدم الدعم والمساندة لجماعات التكفير الإرهابية التي تقاتل ضد الجيش السوري والدولة الوطنية العلمانية السورية .
وينبغي على النخب والطلائع العربية المناضلة إطلاق مبادرة تجديد حضاري في الفكرة القومية العربية تتسع للتنوع الديني والثقافي في مجتمعاتنا المشرقية وتجعل منه علامة الغنى والتجدد وتحمي في ظل دولة المواطنية الواحدة اللاطائفية جميع حريات المعتقد الديني .
إن حماية وترسيخ الوجود المسيحي في منطقتنا هو بعد إنساني وحضاري لا بد منه في مسار التقدم وتحويل التهديد التكفيري إلى فرصة لإعادة بناء العروبة الحامية للتنوع في نسيجنا الاجتماعي وفي تكريس الثراء الروحي والثقافي الذي يحققه التنوع في قلب وحدة الحياة وفي ظل المساواة في جميع الحقوق والواجبات للمواطن كائنا ما كان دينه او معتقده .