من حديث النكبة- معين الطاهر
عندما نشبت الحرب في سنة 1948، والتي انتهت، وكما هو معلوم، بإقامة دولة الكيان الصهيوني على الجزء الأكبر من فلسطين، كان الشعب الفلسطيني لا يزال يعاني من آثار الحرب العالمية الثانية، والقمع البريطاني الذي أدى إلى انتهاء الثورة الكبرى (1936)، وسجن معظم قادة حركته الوطنية أو تشريدهم. ولم تكن الحركة الوطنية الفلسطينية قد تعافت من أحداث الحرب العالمية الثانية، ولم تكن قد تجاوزت تلك الأحداث التي سمحت لليهود بموجات متتالية من الهجرة، والأهم بتشكيل جيش يهودي مدرب ومسلح، في حين لم يكن للفلسطينين أي وجود عسكري منظم، باستثناء المجموعات القليلة التي انضوت تحت راية الجهاد المقدس، بقيادة الشهيد عبد القادر الحسيني، وتركز وجودها في منطقة القدس. وفي باقي المناطق، قاتل الفلسطينيون، كأفراد أو مجموعات، في القرى والمدن، ميزها نظام الفزعات والنجدات التي كانت تصل، غالباً، بعد انتهاء المعارك، ومن دون وجود لأي قيادة مركزية .
تحدثني والدتي، شأن حديث كل الأمهات الفلسطينيات، كيف باعت أسر فلسطينية عديدة مقتنياتها الثمينة لشراء أسلحة أو ذخائر، وتضيف أن أغلب هذه الذخائر كانت فاسدة، فكان يجتمع رجال العائلة ونساؤها في أحد بيارات يافا، بإشراف من عمي فيصل، المهندس الكيماوي المتخرج من القاهرة، والعائد من أول بعثة تعليمية تصل إلى الكويت، لتنظيف القنابل والرصاص، وتفريغها من محتواها، ليعيد عمي تعبئتها، وكيف تدخل القدر لينقذ عشرات منهم، غادروا معمله لتناول طعام الغذاء، على أن يلحق بهم بعد أن ينتهي من إعداد عبوة كبيرة لتسليمها الى المجاهدين، لكنها انفجرت بين يديه، بعد مغادرتهم بدقائق.
غادرت عائلتي يافا إلى نابلس، وبتعليمات صارمة من عمي، عضو اللجنة القومية ليافا، لم يأخذوا من متاعهم شيئاً، إذ بعد بضعة أيام يعودون، بعد أن تدخل الجيوش العربية. بحثت طويلاً لعلي أجد أثراً لهذه الدعوة التي انتشرت في صفوف الفلسطينيين، وعززت رغبتهم في الخروج أيام المجازر الصهيونية والتهجير القسري. غادر بعضهم قريته إلى القرية المجاورة، ولم يسمح له، فيما بعد، بالعودة إلى قريته الأصلية التي دمرت، على الرغم من بقائه تحت الاحتلال، واستمر يزور أنقاض قريته، لعله يتمكن من دفن من يموت في مقبرتها، أو يجلس في ظلال زيتونة رومانية، أو سنديانة عتيقة، بقيت شامخة وشاهدة على استمرار الزمان. اللافت أن غالبية المستوطنات الصهيونية أقيمت قرب القرى الفلسطينية المدمرة، وليس فوق أنقاضها.
ضعف تنظيم الفلسطينيين وقلة حيلتهم وإمكاناتهم أوهمتهم بأن في وسعهم الاعتماد على العرب، وكيف لا والقضية الفلسطينية قضية عربية أصيلة، وما الشعب الفلسطيني إلا رأس الرمح فيها، وغاب عنهم أن هذا الرمح مكسور، وأن الضعف العربي يكاد يفوق الضعف الفلسطيني، فالدول العربية كانت تحت الاستعمار الغربي المباشر، والتي استقلت منها كان استقلالها غير ناجز، وعمر جيوشها الوطنية أشهراً أو سنوات قليلة. أفضلها تنظيماً وتسليحاً كان الجيش العربي الأردني، والذي كانت قيادته إنجليزية، والتزم البقاء في الأماكن التي حددتها اتفاقية رودس، بما في ذلك انسحابه من مناطق سبق وأن وجد فيها، وتم تهديد الضباط العرب الذين حاولوا تجاوز هذه الأوامر وعقابهم.
انتهت الحرب إلى نكبة الشعب الفلسطيني، وبقاء جزء منه تحت الاحتلال، وضم الضفة الغربية للأردن، وإلحاق غزة بالإدارة المصرية، بعد فشل تشكيل حكومة عموم فلسطين، وتوزع اللاجئون الفلسطينيون على مخيمات الشتات. وأدت تداعيات النكبة إلى قيام محاولات فلسطينية وعربية متعددة باتجاه تشكيل الأحزاب والجمعيات السياسية، وزرع بذور المقاومة في بداية الخمسينيات. وعرفت هذه المرحلة ظاهرة الانقلابات العسكرية وتسلم الجيوش مقاليد السلطة، وبدء بناء الجيوش الوطنية، كرد فعل على هزيمة 1948. واستغلت القضية الفلسطينية في النزاعات العربية والحزبية، وفي تبرير القمع الداخلي، ومبرراً لتأخير التحولات الديمقراطية والإصلاحات الداخلية، تحت شعار مواجهة العدو الخارجي.
جاءت النكسة بعد النكبة، والتي يصادف هذا العام ذكرى 67 عاماً على النكبة و48 عاماً على النكسة في مفارقة ساخرة. لم يختلف الحال كثيراً. ظل المواطن العربي مهمشاً على جانب الصراع، وسيلة تواصله الوحيدة كانت راديو الترانزستور الذي يستمع منه إلى الطائرات الصهيونية المتساقطة، ويمني النفس بالنصر الكبير والعودة في غضون أيام.
كنت في نابلس، وهرعت مع أبنائها لاستقبال الدبابات القادمة من شرق المدينة، ظنناها عربية عراقية، أو جزائرية، ضمن التعزيزات التي ستصل الى أرض المعركة. ما أن لمحت دبابة عجوزاً جاء للترحيب بها، ويحمل بندقية قديمة، كان قد جرى توزيع عدد محدود منها، صباح ذلك اليوم مع خمس طلقات فقط، حتى أطلقت عليه النار فخرّ صريعاً. حينها، تبخرت كل أحلامنا، وأدركنا أي كارثة حلت بنا.
استقبل النظام العربي المقاومة الفلسطينية التي اشتد عودها، بعد حرب حزيران بترحاب شديد، فقد كان بحاجة لرافعة في وجه الهزيمة المدوية، ويسجل للثورة الفلسطينية المعاصرة نجاحها في استعادة الهوية الفلسطينية المفقودة منذ النكبة، لكن احتضان النظام الرسمي العربي المقاومة جعلها تنجرف ضمن نهجه، وتصبح جزءاً من صراعاته الداخلية، ما أوصلها، ومنذ انخراطها في عملية التسوية، إلى نكبة جديدة، لحقت بالشعب الفلسطيني عبر اتفاق أوسلو، والغرق في سراب التسوية، الأمر الذي أدى إلى إعادة تفتيت مكونات الشعب الفلسطيني، وفقدان حواضنه وامتداداته العربية.
بعد 67 عاماً على النكبة، ما نزال نعيش امتداداتها فينا. قد تختلف الأسماء والمسميات من نكبة إلى نكسة إلى وكسة تلي أخرى، وفي هذه المرة، تزداد خطورةً عبر نخرها النسيج العربي، تحت شعارات طائفية ومذهبية. وفي ظل الفساد المرتبط بمصالح الأجنبي، والاستبداد الذي يحميه، والإقصاء الذي يجعل شعوبنا تتنقل بين المنافي والمخيمات والمعتقلات، وبما ينذر بنكبات أكبر وأعمق، تنهش في قلب الأمة وتفتت أطرافها.
وإذا كانت نكبة فلسطين البداية، فلعله ليس مبالغة القول، إن قضية فلسطين يجب أن تكون النهاية لكل نكبات أمتنا، إذ عوامل الضعف واحدة، ووسائل القوة وإرادة التغيير ما زالت كامنة لدى شعوبنا، والعدو الذي خلق لنا كل هذه النكبات والكوارث هو نفسه، وإن تغيّرت مسمياته.