ما بعد بعد القلمون صادق النابلسي
تأتي ذكرى نكبة فلسطين متوازية مع انتصارات المقاومة في القلمون التي تنظر إليها «إسرائيل» بذهول ما بعده ذهول وتستشعر أنّ مصيراً مشابهاً ينتظر الجليل وربما ما بعد الجليل، وما بعد بعد الجليل. إنّ العقل الاستراتيجي «الإسرائيلي» الذي لا يكفّ عن العمل والتخطيط، وهو في المناسبة، عقل ذكي ومهني للغاية، صُعق من انهيار المسلحين في جبال القلمون بهذه السرعة وفرارهم إلى حيث أقرب الطرق إلى الجحيم.
بدأت الصحافة «الإسرائيلية» تكتب عن حزب الله من نوع آخر ، وتحطم القلعة الاستراتيجية التي عملت عليها «إسرائيل» لسنوات. و دخول تل أبيب مرحلة التقهقر ، و احتمال نشوب الحرب مع حزب الله بات أكبر ، وغيرها الكثير من التحليلات والتعليقات التي تعكس حجم الخيبة والرداءة التي تمرّ بها مؤسسات الكيان «الإسرائيلي» السياسية والعسكرية والأمنية على حدّ سواء.
خلال الأيام الماضية، كثرت التكهنات والأقاويل عن الوهن الذي أصاب قائد المقاومة، حتى راجت روايات ملفّقة عن مرضه الحاد، وأنّ خطابه الأخير بحسب أبرز المحللين النفسيين دلّ دلالة قطعية على أنّ وضعاً صعباً يعيشه السيد بسبب ما ينتظره ومقاومته من مآسٍ ونكبات إذا ما بدأت «جبهة النصرة» زحفها باتجاه البقاع اللبناني. تعمّدت «إسرائيل» وآلتها الإعلامية في الوسط العربي، وخصوصاً قناتي الجزيرة والعربية بثّ أخبار كاذبة وتعمُّد الخداع، وقد طرب لها سياديو لبنان من فريق الرابع عشر من آذار حيث اعتبر بعض أقطاب هذا الفريق أنّ ساعة حزب الله آتية لا ريب فيها. لكنّ حزب الله الذي يتقن الحرب النفسية عقد العزم على أن يضحك كثيراً هذه المرة، قبل أن يبدأ الهجوم الصاعق، وترك المعطيات الميدانية تخبر عن طبيعية الإنجازات التي رسمت صورة بديلة ومغايرة لكلّ الزيف الذي سال كالأنهر، وعن مشهد قال «الإسرائيليون» إنّه يحمل دلالات أبعد من هزيمة نكراء لـ«جبهة النصرة» ترتبط بخيط التوازنات الذي ينسجه الحزب من لبنان فسورية إلى العراق واليمن وصولاً إلى حبكة الاتفاق النووي التي ستجعل الحزب على صهوة حصان القوة والعزة والمجد في المنطقة التي تسمى تاريخياً بلاد الشام.
دماء الشهداء في القلمون التي يحسبها البعض المغرض والمعادي دماء في إطار قضايا خاسرة يشتغل عليها الحزب بلا أفق، ستخيّب بالدرجة الأولى مَن يراهنون على سراب تحويل لبنان إلى إمارة من إمارات «النصرة» أو «داعش»، وستضاعف من يأس وإحباط الداعمين لهذه الجماعات الدموية العبثية، كما ستزيد من قلق «إسرائيل» على وجودها، وتمنع حلم فرنسا بأن يكون لبنان من حصتها. سترفع من قابلية أميركا لطلب الحل السياسي في المنطقة كخيار منطقي، وستعجل من وتيرة انسحاب المقامرين العرب والأتراك لئلا يتكبدوا خسائر إضافية. وفي المقابل، ستعزز هذه الدماء قوة ومنعة لبنان، ستحافظ على الكيان، وتفتح دروب التسوية السياسية الداخلية بين اللبنانيين. لكنّ الأهم أنها ستؤكد للعالم كله أنّ رجال حزب الله هم رجال استثنائيون، رجال أبطال، رجال شجعان، رجال أصلاء، رجال لم تلوثهم الآثام والمكاسب الدنيوية الزائلة، رجال لم يقعوا في مستنقعات الاغترار، رجال لا يخافون الموت، رجال ولدوا في الضوء، رجال لم يملّوا من النظر إلى فلسطين، رجال يعشقون الساحات ويملؤون الفضاء بعطر الحرية. رجال لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر مثلهم طهراً ونقاءً وإيماناً على قلب بشر في عصرنا الراهن.
سيكون أمام العدو «الإسرائيلي» أن ينتظر جزءاً من المفاجآت القادمة. جزءاً يمسّ وجود الكيان هذه المرة، بعدما بات حزب الله على علو ألفي قدم. ماذا بعد القلمون؟ هنا السؤال الأكبر الذي على العقل الاستراتيجي «الإسرائيلي» أن يجد شيئاً من الإجابة عنه. وما بعد القلمون أمرّ وأدهى. هكذا سيكون حال لسان المقاومين عندما تنشب الحرب القادمة!
(البناء)