هل يجرؤ ريفي على ترك الكفوري للقضاء … كما ترك حزب الله سماحة؟
ناصر قنديل
– يعيش اللبنانيون زمناً يتمنّون لو أنّ فيه قضاء مستقلاً نزيهاً شجاعاً، يملك فيه القضاة حصانة العيش الكريم والحماية والحصانة المعنوية، ليشكلوا وحدهم مظلة الشعور الذي يفتقده اللبنانيون لوجود دولة القانون، ودولة القانون تعني شيئاً واحداً، أن يعرف المواطن باللاوعي، عبر الممارسة المكرّسة أنه إنْ كان صاحب حق فسيصل إلى حقه عن طريق القضاء، ولو كان خصمه في أعلى مراتب الحكم والسلطة والنفوذ، ويملك من المال ما يسمح له بدفع أعلى الرشاوى للسياسيين النافذين. ولا يعرف المواطن هذا الانطباع من خوض تجربة شخصية، بل من سوابق يمرّ بها القضاء تطاول بأحكام شجاعة أصحاب النفوذ، أو تثبت أنها لم تأت وفقاً لرغباتهم ومشيئتهم، وتعبيراً عما يطلبونه من القضاء، وأنّ الأحكام الصادرة أملاها على القضاة ضميرهم المهني، وقدسية مسؤوليتهم، وعودتهم إلى نصوص القانون، وفقط نصوص القانون، من دون النظر في هوية وولاءات المتهم، ولا المدّعي، ولا التوقف أمام رغبة من يناصر المتهم أو رغبة من يناصر المدّعي.
– كلّ ما يحيط باللبنانيين، في الممارسة القضائية ذات المغزى في ترسيخ مفهوم وانطباعات سيادة دولة القانون، أيّ ما يخصّ شعورهم بالأمن، يقول لهم العكس، علماً أنّ عشرات القضايا تبت يومياً أمام المحاكم، وينظر فيها قضاة مجتهدون، يتصفون بالعلم والنزاهة والاستقلال، على رغم غياب الحصانات المادية والمعنوية، فالقضايا التي تصنع هذا الانطباع الطيّب عن دولة القانون عند الناس ليست هي القضايا التي ينظر بها القضاء، كعدد أو موضوع، بل تلك التي تنتقل أخبارها بين الناس، ويسمعون عنها، لأنها تسمّى قضايا ذات سمعة اجتماعية، ينطبق عليها التداول الشفهي في الصالونات، فيعرف اللبنانيون أن تصنيع شاهد زور هو جريمة، ويشاهدون فيلماً على إحدى الشاشات التلفزيونية، لمن أجمعت الناس على وصفه بالشاهد الزور زهير الصديق بعد الإفراج عن الضباط الأربعة بقرار من المحكمة الدولية، التي يساندها الفريق الذي قام بصناعة الشاهد الزور، وماذا في الفيلم؟ رئيس حكومتهم لمرات متكرّرة يجلس ويتحادث بصورة لا تليق ولا توحي إلا بشراكة وتبادل أدوار بين رئيس الحكومة والشاهد الزور، يحدث هذا ويمرّ مروراً عادياً على اللبنانيين، من دون أن يتوقعوا سواء كانوا من مؤيدي رئيس الحكومة أو من خصومه كمواطنين، مجرّد استدعاء رئيس الحكومة لسماع إفادته، في هذه القضية، لماذا؟ لأنّ اللبنانيين مستسلمون بالأصل إلى كونهم لا يعيشون في دولة قانون، والطبيعي أن يسري على مدير قوى الأمن الداخلي يومها، وزير العدل اليوم وعلى رئيس فرع المعلومات يومها، ما يسري على رئيس حكومة.
– يشاهد اللبنانيون على شاشاتهم صور وزير للداخلية وهو يعطي الأوامر لعناصره وضباطه باستقبال جنود وضباط جيش الاحتلال في ثكنة مرجعيون، ويسمعون عن قيامه بالطلب من ضباطه أن يحسنوا ضيافة جيش الاحتلال ويقدّموا له الشاي وتصير طرفة يتداولها الناس، والناس يعلمون أنّ التعامل مع الاحتلال أو نشر الوهن في وجه قواته بين المواطنين جريمة يعاقب عليها القانون، فكيف بين عناصر القوات المسلحة، وتمرّ الحادثة، من دون أن يسمع اللبنانيون أو يتوقعوا سماع بيان من جهة قضائية عن حقيقة ما جرى بعد الاستماع الوافي للمعنيين وعلى رأسهم الوزير، يحدّد المسؤوليات ويعلن اتخاذ الإجراءات المتناسبة مع الجرم في حال وجوده، أو ينفي مجرد هذا الوجود.
يعلم اللبنانيون أنّ رئيس حكومة تدخل علناً للإفراج عن شخص موقوف من جهاز أمني بتهمة الاشتراك في أعمال إرهابية، ويحتفل رئيس الحكومة بالمفرج عنه كبطل وكبريء حرّره من الظلم، وبعد شهور تطارد الدولة كلها هذا الموقوف المفرج عنه، أو كما سمّي يومها بـ«الأسير المحرّر»، لأنه متلبّس بارتكاب العديد من الجرائم الإرهابية، وتشكيل تنظيمات إرهابية، ولا يتوقع اللبنانيون من رئيس الحكومة المعني وضع نفسه بتصرف القضاء على تصرّفه المشين ولا يتوقعون من القضاء القيام بمساءلته.
– يعرف اللبنانيون أنّ قائد إحدى الميليشيات قبع في السجن تنفيذاً لأحكام قضائية لسنوات عدة بأحكام إعدام، ويسمعون بعدها أنه تمّ الإفراج عنه بقانون عفو، من دون أن يتضمّن العفو إعادة محاكمة لإثبات البراءة إذا كان الحكم مسيّساً كما يُقال، ومن دون محاسبة القضاة الذين أصدروا الحكم إذا كانوا ظالمين، بل يكافأ أبرز القضاة الذي أصدروا الحكم ويرسل لتمثيل لبنان في المحكمة الدولية التي يفترض أن ينتظر منها لبنان الحقيقة والعدل في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فيتساءل اللبنانيون إذا كان المفرج عنه بريئاً فالقاضي متلاعب بالحقيقة والعدالة وستكون نتيجة المحكمة الدولية مناقضة لقواعد العدل والحق، وإذا كان القاضي نزيهاً وعادلاً فمكان المفرج عنه في السجن، فكيف يثقون أنهم في دولة قانون؟
– يعرف اللبنانيون أنّ أربعة من كبار ضباطهم ورؤساء الأجهزة الأمنية جرى إيقافهم بتهمة التورّط في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ويصمتون وينتظرون النتيجة، فتخرج المحكمة الدولية بقرار إخلاء سبيلهم واعتبارهم أبرياء، من دون أن يسمع اللبنانيون كلمة عن كيف ستتمّ محاسبة الذين لفقوا التهمة وصنعوا الشهود الزور وضللوا التحقيق، واستخدموا الأطر القضائية لتصفية حسابات، أو ماذا عن الذين تهيأت لهم المناصب ليرثوا المواقع التي شغلها هؤلاء ومن الخط السياسي المنافس لهم، بقوة الاتهام وفعله في الرأي العام؟
– يسمع اللبنانيون أنّ زعيماً سياسياً قال في صالون بيته إنه لا يكون فلان ما لم يضع مستشاره الأقرب وصاحب بيت ماله وأمين صندوقه في السجن، ولم تمض أيام حتى حدث ذلك وصار المستشار خلف القضبان، ولا يعرف اللبنانيون ما إذا كانت أفعال المستشار أم أوامر الزعيم هي التي تحكم؟
– في قضية الوزير السابق ميشال سماحة، كلّ لبناني يتوق لرؤية المواجهة بين ميشال سماحة والشاهد الواشي المدبّر ميلاد كفوري، وكلّ لبناني يعلم أنّ حجج حجب كفوري عن المثول أمام القضاء نقطة قوة لسماحة وليس للاتهامات التي تساق ضدّه، وكلّ لبناني يعلم أنّ الذي يحجب كفوري لديه ما يخافه ويخشاه، ويخرج وزير العدل الذي كان مديراً لقوى الأمن الداخلي ويقول إنه من يمنع مثول كفوري، وببساطة يستسلم اللبنانيون لعدم توقعهم السماع باستدعاء المدير الوزير ومساءلته عن تعطيل العدالة، ويكتفي اللبنانيون بسماع الحكم، وفجأة يصير عليهم سماع قرار إحالة القاضية التي فكرت بطريقة لم تعجب الوزير إلى التأديب، وهم يعلمون أنّ ألفباء قوة القضاء واستقلاله، أن لا يتجرأ وزير على تأديب قاض لأنه يفكر بطريقة لا تعجب الوزير، الوزير هنا رمز للنفوذ والسلطة، قد يكون رئيساً أو مديراً أو سواهما.
– ما دام معيار القانون هو تأديب القاضي الذي يفكر بطريقة لا تعجب الوزير وحلّ المحكمة التي تصدر قراراً لا يرضى عنه وزير، فلن تكون دولة للقانون ولا من يحزنون.
السياسة تحكم، لذلك أقترح مقايضة حلّ المحكمة العسكرية بحلّ المحكمة الدولية، وتشكيل لجنة تنسيق سياسية تنظر بأسماء الأفراد المحالين أمام القضاء، يملك أعضاؤها الذين يمثلون القوى النافذة حق الفيتو على أي إحالة للقضاء، وكلّ من لا ظهر له ولا سند يُحال للمثول أمام القضاء، وكلّ من يعترض أحد أعضاء لجنة التنسيق على إحالته يعفى من الملاحقة، وينشأ للتقاضي بين الخاصة لجنة فضّ نزاعات بدلاً من القضاء، وبين العامة يبقى القضاء الفقير، وعندما يتقاضى أهل الخاصة مع العامة، يكون الحكم مبرماً بمحاسبة المواطن الذي تجرّأ على مقاضاة زعيم أو صاحب مال أو نفوذ.
– قال وزير الداخلية الأسبق، أحمد فتفت إنّ المحكمة العسكرية هي محكمة الحاج وفيق صفا، رئيس لجنة الارتباط والتنسيق في حزب الله، وفتفت يعلم أنه روى عشرات المرات في صالونه، أنه بعد أو قبل توقيف سماحة عقد اجتماع جمع رئيس فرع المعلومات الذي شغل ورتب ونظم ميلاد كفوري بمعرفة مديره اللواء أشرف ريفي، مع الحاج وفيق صفا عرض فيه الحسن أشرطة الكفوري، وكانت معادلة حزب الله، أنّ ما في الأشرطة يكفي للمساءلة أمام القضاء، وأنّ حزب الله لن يشكل عائقاً أمام هذه المساءلة، فهل يجرؤ فتفت أن يقول ذلك مجدّداً؟ وهل يجرؤ اللواء أشرف ريفي على السماح بمساءلة عميله ميلاد كفوري لأربعة أيام مقابل بقاء سماحة خاضعاً للمساءلة قرابة أربع سنوات؟ وهل يجرؤ الرئيس سعد الحريري على السماح بمثول اللواء ريفي للمساءلة في قضية الشاهد الزور زهير الصديق أمام القضاء ويلتزم الصمت، بمثل صمت حزب الله في سنوات توقيف الضباط الأربعة؟
– نمارس الدفاع عن حقنا بخجل، ويمارس الآخرون حماية باطلهم بفجور، فإلى متى يأكل الفاجر مال التاجر، وإلى متى سنبقى في زمن عنوانه يرضى القتيل وليس يرضى القاتل، وهل يكفي أن يصول ويجول القاتل على هواه فقط لأنه يحمل قميص الرئيس رفيق الحريري، بِاسم ولاية الدم؟
(البناء)