رسائل من قمة موسى إلى من يهمه الأمر خليل حرب
خلف مشاهد الصعود البطولي أمس الى قمة تلة موسى، ثلاثة أبعاد رئيسية على الصعيدين السوري ـ اللبناني والإقليمي. صدى «صفعة العاصفة القلمونية» يذهب بعيدا.
عملية القلمون ستتكلم عن نفسها. هكذا تحدث الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله قبل أيام، لكن أحدا لم يقل الى الآن ان «المعركة الكبرى» قد وقعت بالفعل، ام ان ما جرى هو مجرد استكمال – أو تتويج – لعمليات القضم التي تأتي في سياق الاشتباك المتدحرج الذي يقوم بها الحليفان، الجيش السوري و «حزب الله» منذ نحو عشرة أيام، وقد تتبعها إنجازات أكبر وأكثر أهمية.
«خطتان للمقاومة» وضعتا مسبقا، كما يقول مصدر مطلع على المشهد الميداني. ويوضح ان «الحليفين» فتحا مواجهات استكمال معارك القلمون وبحوزتهما خطتان، لكن انكسار المسلحين أمام الهجوم في أكثر من موقع، جعل «الحليفين» يمضيان بخطتهما الأولى. ولم يوضح طبيعة «الخطة ب» وأهدافها البديلة.
ولا حجة لما يسمى بـ «جيش الفتح في القلمون» بالادعاء أن فصائل مسلحيه في السلسلة الشرقية لجبال لبنان، قد أُخذوا على حين غرة. السيد نصرالله نفسه كان قد أعلن عن «استحقاق ذوبان الثلوج» في شباط الماضي. صحيح ان «الحليفين» باشرا بالاستعدادات منذ ثلاثة أشهر، كما تقول مصادر ميدانية متابعة، إلا أن مسلحي التكفيريين على الحدود السورية وداخل الاراضي اللبنانية نفسها، كان أمامهم الوقت الكافي للتموضع في وضع الجهوزية العالية استعدادا لمنازلة فاصلة، مثلما سبق أن هددوا، أو التشرذم وهو على ما يبدو ما حدث بين صفوفهم بشكل كبير.
ولهذا كانت العملية المشتركة للحليفين، حتى لا ننتظر «سراب» قيام الدولة اللبنانية بمسؤولياتها بمواجهة اعتداءات التكفيريين، سواء ضد الجيش أو المدنيين اللبنانيين، كما لمّح السيد نصرالله مؤخرا عندما قال «كنا سنمشي خلفها» لو انها سبقتنا بالقيام بواجباتها.
ولا تقل أهمية التحذير بشأن «استحقاق ذوبان الثلوج»، الذي كان إيذانا بالاستعداد للزحف نحو الجرود الشرقية، عن الإعلان الشهير في حزيران العام 2013 عندما أعلن السيد نصرالله «كنا آخر المتدخلين» في سوريا، وبالتنسيق مع دمشق. «هجوم الربيع القلموني» ستكون له تداعياته الأكيدة والكبيرة، كما كانت معركة القصير قبل نحو عامين، نقطة تحول حاسمة لمصلحة دمشق في مسارات الحرب على الدولة السورية والمفتوحة على خطط التآمر الاقليمية والدولية.
أولا: البعد السوري
باختصار، تبدو «معركة القلمون» كأنها تقول ان حلف المقاومة، قائم وصلب وينتصر. فلماذا؟
استعاد السوريون في الأيام الماضية، أجواء الإحباط التي سادت ما بعد تفجير «خلية الأزمة» في دمشق قبل نحو ثلاثة أعوام. فخلال الشهرين الماضيين، جرت سلسلة محاولات حثيثة لإضعاف الهمة السورية على الأصعدة الميدانية والسياسية والنفسية والإعلامية، وتحركت في توقيت واحد، لخطف اللحظة السورية بأوامر إقليمية ودولية، مترافقة مع «عاصفة حزم» أريد لها أن تتناسل على ما يبدو لاستيلاد «عاصفة» شبيهة ضد الحكم في دمشق.
وعلى اتساع جغرافيا المعارك السورية، كان من السهل نسبيا تسجيل اختراقات ميدانية هنا وهناك، خصوصا حيث نجح «الحلفاء» الإقليميون في توحيد صفوف فصائل «الجهاديين والتكفيريين» في إدلب وريفها. «جيش الفتح» الذي يضم خليطا غير متجانس من الأفكار والبنادق، حقق بعض الأهداف على الصعيد الادلبي بإثارة حالة من الوهم بتضعضع حلف الشركاء، السوري والايراني و «حزب الله»، وإضعاف المعنويات والتشكيك بصمود الجبهة، سياسيا وعسكريا وشعبيا.
بهذا المعنى، فإن «معركة القلمون» تمثل «صفعة كبرى». وهي ترافقت مع عدة تطورات تمثلت بزيارة وزير الدفاع السوري العماد فهد جاسم الفريج الى طهران، وصمود المقاومين في مستشفى جسر الشغور، والحشد الكبير في سهل الغاب، وزيارة رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني علاء الدين بروجردي الى دمشق، وصولا الى انتقال النار اليمنية الى داخل الحدود السعودية.
ولهذا، فإن الصعود الى قمة موسى، يشير الى ثبات دمشق، وتحصين أمنها بالنظر الى امتداد الجرود القلمونية الى الريف الحمصي واتصاله بالشريان الحيوي الى العاصمة السورية، ما قد ينعكس على شكل تطور ميداني مهم في ريف العاصمة. دمشق، هي بالتالي، معنية مباشرة بالانكسار القلموني لـ «جيش الفتح»، وتحطيم آمال توحيد بنادق التكفيريين ضد الدولة السورية.
ثانياً: البعد اللبناني
بحسب المصادر الميدانية، فإن المعركة الحالية في القلمون لم تكن لتبدأ قبل قطع العمق اللوجستي بين جبال القلمون وجبال الزبداني. ففي الزبداني، جرى التأسيس المبكر للمعركة الحالية التي ستضع قريبا رجال المقاومة وجهاً لوجه مع مسلحي «داعش» في منطقة جرود قارة، وهو الذي بنى وجوده هناك ووسعه من خلال ثلاث مسائل: الانتصارات التي حققها خلال الأشهر الماضية في أكثر من ساحة مواجهة سورياً وعراقياً، وقدراته المالية التي سمحت له بشراء الولاءات، خصوصا من فلول الهاربين من معركة القصير، وثالثا محاولة أمير «النصرة» في القلمون أبو مالك التلي تجنب الصدام مع «الدواعش» حتى الأيام الأخيرة.
لكن المشهد أكبر من ذلك. معركة القلمون، تنزع شوكة عرسال من الجسد السوري النازف، وقد تشكل بداية لكسر الخنجر اللبناني الذي غرز مبكرا في الخاصرة السورية منذ أربعة أعوام، في إطار خطة استنزاف دمشق عبر كل الحدود السورية.
وعلى جانب آخر، قد تساهم تطورات القلمون في خلاص عرسال من حالة التزوير لهويتها وانتمائها الحقيقي الذي فُرض عليها في إطار التآمر على دمشق، تحت ستار «النأي اللبناني بالنفس»، وهو خلاص قد يتحقق عبر أمرين: انتفاضة عرسالية ضد سطوة المسلحين وإجرامهم، وحتمية انتقال الجيش الى مرحلة التعامل الجاد مع متطلبات مثل هذا الخلاص الوطني لهذه المدينة المهملة.
وكان من اللافت ترافق هذه التطورات مع حملة قوى سياسية لبنانية معارضة لـ «حزب الله» تحذر من تداعيات معركة القلمون وتروج لـ «خطوط حمراء» سعودية.
وبعيدا عن الكلام التهويلي، الذي شارك فيه السفير الاميركي ديفيد هيل، فإن للأمر دلالاته الكبرى، على الصعيدين اللبناني والاقليمي، في ان «حزب الله» مضى الى استكمال معركة الجرود القلمونية، إدراكا منه لحتميتها، أقله على صعيد منع استنزاف القرى اللبنانية الحدودية والتحرش بها.
لكن كثيرين يراقبون كيف انه ومن خلال الجغرافيا الواسعة والمتصلة امتدادا من ريف القصير وحمص صعودا الى جرود القلمون، نال «حزب الله» البعد الاستراتيجي لأي مواجهة مقبلة مع اسرائيل، ما يفتح امام حلف المقاومة خيارات ميدانية اكثر اتساعا. وهؤلاء ايضا، وبينهم الاسرائيلي والاميركي وغيرهما من خصوم دمشق، يتابعون القدرات القتالية التي تتراكم لدى خصومهم. وبهذا المعنى، يقول المصدر الميداني، ان معركة القلمون، هي مجرد «عينة من عصارة التجربة السورية في أداء حزب الله».
ثالثاً: البعد الاستراتيجي
وكما أشرنا سابقا، فإن السيناريو المكرر بالتهويل إعلاميا ونفسيا بشأن قرب سقوط دمشق، والحديث عن نزوح «مذهبي الطابع» من أحياء في دمشق واغتيال الرئيس الأسد وعزل رئيس مكتب الأمن القومي السوري اللواء علي مملوك وتهديد وشيك ضد مناطق الساحل، وتقاعس طهران عن دعمها، كلها تلقت صفعة مدوّية. ولم تسلم من سخونة تلك الصفعة حتى وسائل إعلام عربية، ولبنانية، شاركت مشاركة حثيثة في الترويج لهذا التهويل، وربما تعيدها معركة القلمون الى نصابها الطبيعي.. مؤقتاً.
واذا كانت هذه الصفعة لا تعني بالضرورة نهاية التآمر، فإن رسالة ضمنية أخيرة، يحملها مشهد الصعود الزاهي على قمة موسى، الى جنرالات اسرائيل: كم هي جغرافيا الجليل أكثر وداعة من الجغرافيا القلمونية؟
(السفير)