القضية الفلسطينية اليوم: د. إبراهيم علوش
في الذكرى السابعة والستين لاحتلال فلسطين، الواقعة في الخامس عشر من شهر أيار من كل عام، ذكرى إعلان تأسيس دولة الاحتلال الصهيوني، يتكشف المشهد العربي عن حقيقة أساسية لم يعد ممكناً إنكارها وهي أن ما يسمى «الربيع العربي» همّش القضية الفلسطينية ووضعها في حيزٍ لم يضق يوماً إلى هذا الحد، وأن ذلك جرى لأن ذلك «الربيع»: 1 حمل في بداياته برنامجاً مستورداً ومنبتاً عن التحرر الوطني هو «الإصلاح» بمقاييس غربية، 2 انطلق من تهميش التناقض مع الإمبريالية والصهيونية، 3 تمخض عن تحالف اللاعبين الرئيسيين فيه معهما، 4 انتهى لخلق ظروف تفكيك وصراعات طائفية وقبلية واثنية أجبرت حتى المعنيين بالقضية الفلسطينية على التركيز على مواجهة الهجمة عليهم بدلاً منها. لا بل يمكن القول إن «الربيع العربي» جاء كتتمة مباشرة للعدوان على العراق ليسفر عن استهداف الجيوش العربية التي قاتلت العدو الصهيوني يوماً: السوري والعراقي والمصري بخاصة، وأن ذلك لعب استراتيجياً لمصلحة الكيان الصهيوني بالضرورة.
فلسطينياً، تمخض «الربيع» المزعوم عن تبني حركة حماس رسمياً لبرنامج «الدويلة الفلسطينية» في حدود الأراضي المحتلة عام 1967، مع أن ذلك التوجه بدأ رسمياً مع خطاب خالد مشعل في دمشق في حزيران عام 2009 رداً على خطاب أوباما في جامعة القاهرة آنذاك، وبذلك لم يعد الصراع بين حماس والسلطة الفلسطينية صراعاً بين برنامج مقاومة وتحرير من جهة وبرنامج تسوية واستسلام من جهة أخرى، بل تحول إلى صراع فصائلي على سلطة غير موجودة في دولة مفتقدة السيادة. فالسلطة الفلسطينية رسخت دورها كوكيل أمني للعدو الصهيوني في الضفة الغربية، أما حماس فباتت تبدو أكثر فأكثر كمن يناطح السلطة على سلطتها، لا كمن ينطلق من برنامج سياسي مختلف جذرياً عن برنامج السلطة، وقد تعزز ذلك بعد وصول الإخوان المسلمين للحكم في مصر وتونس، بالتفاهم مع الإدارة الأميركية، كنتاج مباشر لـ«الربيع العربي»، وشعور الإخوان المسلمين في كل الإقليم أن اللحظة التاريخية حانت لتسلم الحكم في كل البلدان العربية، ومنها السلطة الفلسطينية طبعاً. وصارت معضلة قيادة حماس، ولا تزال، نيل الاعتراف الدولي والرسمي العربي بسلطتها في غزة، لا برنامج المقاومة والتحرير، وصارت تلعب، كما لعبت قيادة فتح من قبل، لعبة القتال حتى الوصول لطاولة المفاوضات… ولا بأس من تنظيف حركة الإخوان المسلمين في الإقليم بالدم الفلسطيني بين الفينة والأخرى طبعاً.
في الآن عينه راح الجمهور الصهيوني يزداد يمينيةً وتطرفاً، وطفق يجنح أكثر فأكثر نحو انتخاب قوى سياسية تتمسك ببرنامج التهويد الشامل للأرض العربية الفلسطينية المحتلة وللنظام السياسي في دولة الاحتلال، وصار أقل استعداداً لتقديم تنازلات شكلية تافهة من نوع «تجميد الاستيطان» من أجل استمرار مهزلة المفاوضات مع السلطة الفلسطينية و«العملية السلمية» في المنطقة! ومع أن مثل ذلك الموقف المتشدد استفز الاتحاد الأوروبي وإدارة الرئيس أوباما، اللذين كررا التزامهما الأبدي أيضاً أمن العدو الصهيوني وتفوقه العسكري، فإن حكومة نتنياهو وحلفائه من غلاة الصهاينة لم يتراجعوا، بل ازدادوا تشدداً، وراحوا يخوضون معركة سياسية ضد الرئيس الأميركي في ملعبه الخلفي في مجلس النواب والشيوخ الأميركيين، من دون مراعاة حاجة الإمبريالية العالمية، في سياق المعركة الدولية ضد الدول المستقلة مثل روسيا والصين، لتجنيد العرب والمسلمين في صفها.
أكثر ما يغيب في الذكرى السابعة والستين لاحتلال فلسطين هو برنامج المقاومة والتحرير بعد أن تخلى عنه معظم أهله، إلا من رحم ربي، وهم موجودون بالطبع، ولا يزالون يقبضون على الجمر، لكن الحقيقة المؤلمة تبقى أن قيادة حركة فتح عبر مسيرتها، ومنذ برنامج النقاط العشر عام 1974، ثم قيادة حماس السياسية، بالإضافة لقيادة عدد من الفصائل اليسارية، ثم أقطاب المنظمات غير الحكومية الممولة أجنبياً في فلسطين وجوارها، تمكنوا من زحزحة قطاع واسع من الشعب العربي الفلسطيني باتجاه برنامج «الدولة المستقلة» على خمس فلسطين بعيداً عن برنامج التحرير، وجاءت مداخلة إدوار سعيد وعزمي بشارة لتتمم ذلك التلوث السياسي بتلوث آخر، عقائدي، أكثر خطورة، بالحديث عن «دولة واحدة» لكل مواطنيها، عربية – يهودية، ولتوجه ضربة إيديولوجية لفكرة عروبة الأرض، وهي أساس الصراع منذ البدء: هل الأرض عربية أم يهودية؟
لم يبدأ التدهور في الوضع الفلسطيني مع «الربيع العربي»، إنما جاء «الربيع» المزعوم ليزيد الوضع الفلسطيني تدهوراً. فالتدهور بدأ مع تقهقر المشروع القومي في بلادنا، وتكرس مع زيارة أنور السادات للقدس عام 1977، ومع التخلي عن المسؤولية العربية عن فلسطين في مؤتمر الرباط عام 1974 تحت عنوان «الممثل الشرعي والوحيد»، ثم «نقبل بما يقبل به الفلسطينيون»! لكن لا بد أن نصر على أن ذلك التدهور هو بالضرورة حصاد نهج التسوية والاستسلام، عربياً وفلسطينياً، وأنه نتاج ضرب العراق وإخراجه من معادلة الصراع، وأنه سيزيد مع استنزاف سورية والجيش المصري وبقية البلدان العربية. وأن وضع حد لذلك التدهور لا يكون إلا بالعودة لبرنامج المقاومة والتحرير، وتحقيق شروطه السياسية والتعبوية والعسكرية.
أخيراً، عند تناول ذكرى احتلال فلسطين، لا بد من التنبيه إلى خطأ شائع هو وصفها بـ«النكبة»، وهو المصطلح غير الموفق بتاتاً الذي أطلقه المفكر قسطنطين زريق. إذ تجب الإشارة لهذا الاحتلال بكونه احتلالاً، وعدم الوقوع في شرك القبول بدور الضحية من خلال مصطلح «النكبة». فالنكبة أو الاغتصاب حدثٌ من الماضي لا يمكن تغييره، كالكارثة الطبيعية مثلاً التي تأتي وتمضي ولا نملك إلا أن نتأقلم معها. ولذلك يمثل استخدام تعبير «نكبة» أو «اغتصاب» من دون كلمة احتلال اعترافاً ضمنياً، ولو عن حسن نية، بالكيان الصهيوني. ولا مشكلة باستخدام أي تعبير مع كلمة احتلال طبعاً، ما دام المقصود بالاحتلال كل فلسطين، لا الأراضي المحتلة عام 67 فحسب.
(البناء)