المنطقة في مواجهة مشروع التقسيم العميد د. أمين محمد حطيط
عندما دخلت أميركا بثقلها العسكري إلى منطقة الشرق الأوسط في عام 1991 تحت عنوان «عاصفة الصحراء» من أجل «تحرير الكويت» الذي غزاه صدام حسين بإيعاز وتشجيع أميركي، كانت أميركا تتوخى من هذا الدخول امتلاك النفط العربي والتحكم بالمعابر المائية المعتبرة شرايين الاقتصاد العالمي ما يمكنها من التحكم بالمعمورة في إطار نظام عالمي جديد طمحت إلى إقامته على أساس أحادي القطبية نظام برأيها كان يقتضي تحويل الشرق الأوسط إلى مستعمرة أميركية خالصة لا ينازعها فيها أحد بصوت معترض أو رافض.
نجحت أميركا في الخطوة الأولى بالانتشار في الخليج وحولته إلى بحيرة أطلسية في أقل من أسبوعين، ظنت أن إيران وسورية ستنصاعان لها لا بل ستسارعان للوقوف بالصف تنتظران الدور لتقديم مراسم الطاعة، الأمر الذي تبين فيه سوء تقدير أميركي كبير، خاصة بعد ما تبين لأميركا أن هاتين الدولتين لا ترفضان فقط الاستسلام لأميركا بل تحتضنان المقاومة المسلحة التي تناهض حليفتها وأداتها الاستراتيجية «إسرائيل» في لبنان وفلسطين، احتضان مكن من نشوء محور المقاومة الرافض في عمقه لفكرة الشرق الأوسط- المستعمرة الأميركية والعامل من أجل منطقة شرق أوسط لأهلها متعاونة مع الخارج بما يحفظ مصالح شعوب المنطقة.
بعد عقدين من المواجهة العسكرية والحروب التي خاضتها أميركا بتشريع من مجلس الأمن الذي امتلكت قراره بعد عام 1991 ومن غير تشريع منه وخلافاً لقواعد القانون الدولي العام، فهمت أميركا أن هذا المحور بما يملك لن يمكنها من تحقيق الحلم الوردي ذاك، وتأكد لها بعد 4 سنوات من إضرام نار «الحريق العربي»، أن إسقاط محور المقاومة من أجل تمرير المشروع أمر صعب، خصوصاً بعد أن تأكدت من أن هذا المحور امتلك قدرات عسكرية وخبرات قتالية تمنعها من السيطرة العسكرية عليه لإخضاعه سواء عملت باستراتيجية القوة الناعمة أو استراتيجية القوة الصلبة.
مع هذه القناعة اتجهت أميركا إلى العمل باستراتيجية تحديد الخسائر، أو السعي للحصول على أقصى ما يمكن من المكاسب، وفقا لمقولة «أن لم تدرك الكل لا تترك الكل»، أي تجنبت كما يبدو فكرة إما السيطرة على كل الشرق الأوسط أو الانسحاب منه»، ففكرة الخروج من الشرق الأوسط هي فكرة انتحارية لا تتصور أميركا نفسها يوماً تعمل بها. وبالتالي فإن أميركا باتت اليوم أمام قناعة في أمرين: يتراوحان بين استحالة امتلاك الحصرية في قرار الشرق الأوسط، وخطورة الانسحاب من الشرق الأوسط إلى الحد الذي يجعل الانسحاب مستحيلاً أيضاً. بين هاتين الاستحالتين يبدو أن أميركا اختارت طريقاً ثالثاً ذو شعبتين:
الأولى تقوم على إحياء مشروع التقسيم القديم -الجديد الذي لوحت به أميركا في لبنان في عام 1975، وعمل بشيء منه في السودان في السنوات الأخيرة، وهو مشروع يقوم على تقسيم الدول في المنطقة على أساس عرقي أو ديني أو مذهبي أو أي أثنية أخرى، بحيث لا تستطيع الدويلة المنتجة بهذا المشروع امتلاك مصدر القوة التي تهدد به المشروع الصهيوأميركي وقاعدته «إسرائيل»، كما لا تستطيع أن تمتلك مصادر الاستقرار واستثمار الثروة التي تغنيها عن الخارج. بالتالي سيكون من يعارض أميركا في خندق ومن يواليها في خندق مقابل يتصارعان وتكون أميركا و»إسرائيل» هما الحكم.
الثانية تقوم على فكرة عقد الصفقات المنفردة مع مكونات محور المقاومة بما يغريها بالموافقة على الإقرار لأميركا بمصالحها في المنطقة ومهادنتها هي وأدواتها وأتباعها بما يمكنها من إعادة مشروع السيطرة وفقاً لنمط النفس الطويل.
وفي التطبيق العملي، حاولت أميركا جس النبض في إعمال السلوك الثاني أي منطق الصفقات، وكانت التجربة في سورية من خلال ما اسمي اتفاق نزع السلاح الكيماوي، والتجربة الثانية في إيران من خلال ما اسمي اتفاق الإطار حول الملف النووي الإيراني. وفي التقييم الأولي ثم المعمق تبين لأميركا أن هذين الطرفين غير جاهزين أو لا يتقبلان أصلاً فكرة الخضوع والتنازل ولا يستجيبان لسياسة الاستفزاز والابتزاز، ما جعل أميركا توقن مرة جديدة بفشلها بالمناورة وصعوبة الدخول إلى الدار من البوابة الخلفية، لذلك رأت أميركا أن المشروع الوحيد المتاح أمامها اليوم إذا استمرت متمسكة بفكرة السيطرة والاستعمار هو مشروع التقسيم. فاعتمدته وبدأت تلوح أو تحضر لتطبيقه بدءاً من العراق.
إن مشروع التقسيم الذي يبدو أن أميركا عادت إليه يشكل بنظرها تعويضاً عن الإخفاق بامتلاك الكل فقررت امتلاك الجزء، وشل الجزء الآخر بنار الجزء الذي امتلكته هنا تتمكن «إسرائيل» من العمل بحرية في ظل انشغال الآخرين بحروبهم وفقرهم وجرائمهم ومتاعبهم.
أما مضمون هذا المشروع فيبدو كما يلوح في المسار التنفيذي الأميركي ويتردد في وسائل الإعلام المروجة للسياسة الأميركية فيقوم على تقسيم 5 دول عربية إلى 18 دويلة. ويطاول مقص الخرائط في شكل خاص كل من العراق وسورية واليمن ولبنان والسعودية ويمكن أن تلحق به مصر قبل أو بعد السعودية مع إنشاء دولة المقدسات الإسلامية المدولة في مكة والمدينة بما يرضي رغبات حلفاء أميركا من الدول الإسلامية الكبرى وإخراج تلك الأماكن من يد عربية أما الأردن فتتغير وظيفته ليصبح الوطن الفلسطيني البديل.
إن مشروع تقسيم المنطقة بات خطراً داهماً، وبدأت أميركا في إجراءاته التنفيذية من خلال مشروع القرار الذي يعد في الكونغرس الأميركي والذي يتجاوز الحكومة المركزية في بغداد ويهمش دورها ويعترف ضمنياً بكيانات ثلاثة منفصلة. كما أن السعي السعودي -التركي لتجزئة سورية إنشاء المناطق الآمنة ومناطق الحظر الجوي مدخلاً لها غير خافية على أحد. وهنا يطرح السؤال هل سينجح المشروع؟
إننا نرى وانطلاقاً من القوة القائمة في الميدان والقدرات المتوافرة بيد مناهضي المشروع وهم في شكل أساسي محور المقاومة وجمهوره في الشارع العربي والإسلامي وهو جمهور واسع خلافاً لما يحاول إعلام الغرب ترويجه، أننا نرى أن مصير المشروع هذا هو الفشل بسبب العوامل التالية:
قدرات ميدانية مؤكدة تمنع أو تضع العوائق المانعة لتنفيذ مشروع التقسيم واستقراره، وهو ما يتمتع به محور المقاومة من قدرات يعلم صاحب المشروع بتوافرها والتي لم تستطع سنوات الحريق العربي الأربع استنفادها أو تعطيلها لا بل يمكن القول أن المحور استطاع اكتساب خبرات جديدة وإحداث تراكم في الإمكانات فاجأ العدو.
وعي سياسي نخبوي يتمثل بوجود طبقة فكرية من أصحاب الرأي والنظر الثاقب والشجاعة في بلورة المواقف ما يمكن من كشف المخطط وإنتاج رأي عام رافض له وضاغط ضده.
رفض شعبي لمشروع التقسيم، فعلى رغم كل ما حاوله الخصم من إنتاج بيئة انقسام اثني أو ديني أو عرقي فإن القاعدة الشعبية العامة العريضة ظلت في حالة من رفض الانقسام على رغم سقوط بعض المأجورين والمرتزقة وعبيد المال والشهوة والسلطة في براثن العدو.
عدم ملاءمة البيئة الدولية العامة لتمرير المشاريع الغربية بالسهولة التي تتصورها أميركا وننوه بوجود الصوت الروسي في مجلس الأمن والمدعوم بالصوت الصيني أيضاً.
لكل هذه الاعتبارات ومع علمنا بوجود مشروع التقسيم، فإننا نرى أن هناك من العوائق التي تحول دون نجاحه الكثير لكن حتى تؤتي هذه العوائق مفاعيلها في منعه ينبغي الحذر والتحضير للمواجهة ومن هنا تأتي أهمية المواقف السياسية والمواجهات الميدانية التي تجري الآن لإجهاض مشاريع الغرب التدميرية للمنطقة.
(البناء)