سعودية ما بعد الحداثة هادي قبيسي
ثلاثة نماذج للنظم السياسية الشرق أوسطية تتقدم كمعيار لقياس مسار التشكل السياسي في حقبة ما بعد الاستعمار. الأنظمة الملكية، الأنظمة شبه الديموقراطية، الأنظمة التوليفية. النموذج الأول ينتمي إلى عصر سابق ليس فيه لـ “الرعية” حق ولا دور، بل هي ضمن مجموعة الممتلكات التابعة للأسرة الحاكمة. وقد استمر هذا النموذج بشكل حصري في المناطق الصحراوية النفطية. النموذج الآخر هو حصيلة مسار تطور وانتقال من الملكية إلى الديكتاتورية العسكرية إلى الديموقراطية الشكلية، وهو مشروع يقوم على الهروب من الماضي بسلبياته وايجابياته، دون القطع التام معه، وذلك بمقاربات غير مباشرة ومواربة. النموذج الثالث يقدم نفسه كتوليفة بين الاستقلالية والتراث والحداثة، والذي تمثله التجربة الإسلامية الإيرانية.
الأنظمة الملكية تعاني من أزمة الانفصال عن الزمان وهي لولا النفط لما استطاعت الاستمرار، فهي منفصلة عن الواقع بحدود غير قابلة للتكيف، في زمن الفردية والوعي التشاركي ووسائل التواصل الاجتماعي، تحتفظ هذه الأنظمة بالجمهور معلباً ومجهزاً للبيعة ولتدوين المدائح. استمرت كذلك لأنها مصنفة في فئة المحميات المرفقة بالمساحة الاستعمارية الغربية ولا تزال.
الغرب المتعب من فييتنام العراق الأخير ترك الصحاري وانكفأ قليلاً ليترك هذه المحميات تجرب حظها في البقاء خارج حضانته المباشرة. وجاءت حرب اليمن لإثبات قدرة هذه المجموعة الملكية على إدارة شؤونها بأيديها وتثبيت نظام إقليمي جديد، ليس فيه احتكاك لأحذية العسكر الأبيض مع رمال الصحاري.
البدو الصحراويون النفطيون يستخدمون التكنولوجيا الحديثة بأيديهم ويخوضون حروباً حديثة بشكل مباشر، فقد كانوا في مرحلة الحداثة يتولون إدارة الأدوات العسكرية المتطورة تحت عين المدرب الأجنبي كما في حالة عاصفة الصحراء، إلا أنهم اليوم تخطوا حاجز الأبوة الغربية ليقفزوا في المركب الحضاري العسكريتاري الجاري في زمن التسارع المتواصل.
تهدف المنظومة الخليجية من وراء الحرب تقديم نفسها كتلميذ ناجح أمام الغرب، قادر على تحقيق أهداف عسكرية ميدانية وجني محصول سياسي متكافئ مع التكاليف ومؤدٍ للأغراض ومستجيب للآمال الأمريكية بالحفاظ على توازن القوى في الشرق الأوسط بعد اضطرار الرجل الأبيض للتنكر لواجباته قسراً لا اختياراً، من خلال التسليح الجيد للممالك الخليجية، ومساعدتها من خلف الستار.
الحرب، في مرحلة ما بعد الحداثة، خيضت في ميدان واسع للتجارب والمقاربات القتالية المختلفة، للصراع بين الجيوش الكلاسيكية والقوى غير الحكومية، وقد دخلت مقاربات متطورة موضع التطبيق في لبنان 2006 وغزة والعراق 2014، تقوم على أساس التقليل قدر الإمكان من الاحتكاك الميداني أو الاقتراب البري، فطرحت نظريات تحت اسم “العمليات المرتكزة على التأثير” Effects Based Operations، والتي تبدأ باستهداف البنية العسكرية للخصم لتصل إلى البنى التحتية ولاحقاً تستهدف المدنيين المؤيدين للقوى غير الحكومية المعادية أو حتى المحايدين لتشكيل “التأثير” السياسي الداخلي المتناسب مع قدرة الخصم على إثبات جدوى ومشروعية قرار المواجهة فيسقط خيار القتال من دائرة الممكن، لتتوقف الحرب بإملاء القوة الكلاسيكية شروطها السياسية دون لجوئها للسيطرة على الميدان والتراب.
نجحت الدول الملكية حتى الآن في استكشاف سبل تطبيق هذا النوع من الحروب، والذي انتهى في كل مرة إلى النتيجة ذاتها التي توصلت إليها لجنة أمريكية اسرائيلية مشتركة عام 2007 على مستوى قيادات الأركان : النظرية غير مجدية. وكما بينت كل التجارب، ذلك أنها تتطلب غطاءً سياسياً دولياً مرتفعاً كي يتسنى للقوى الكلاسيكية استثمار المهل الطويلة في تكسير عظام المدنيين وصولاً لتحقيق “التأثير” المطلوب.
استفادت المنظومة الخليجية من تموضعها الطائفي وقدرتها الإعلامية لتعويض الخلل في النظرية على مستوى الغطاء الشرعي، وتسجل رقماً تنافسياً تجاه قرينتها اسرائيل التي لم تستطع رأب الصدع القائم في عمليات التأثير، حيث اضطرت في كل العمليات المشابهة إلى التوقف عند سقوف متدنية من القتل والحصار والتجويع والتدمير الممنهج والتراكمي التصاعدي.
بذلك تقدم السعودية، وجيرانها من الممالك المتخلفة سياسياً، كنموذج ما بعد حداثوي ناجح وجدير قادر على التعيش في ظروف الإنكفاء العسكري الغربي، كما القيام بنجاح بدور وظيفي وذاتي على حد سوءا، طالما أنها وإسرائيل مشروطة البقاء، كنظام سياسي، بالدعم الغربي فإنها تعمل لجعل مجهودها العسكري والدمبلوماسي منسجماً مع اشتباك المصالح العضوي هذا.
صراع النماذج يضع السعودية والممالك الأخرى في موقع كسر النموذج التوليفي الإيراني لحماية حالة الإنكار التي تعيشها تجاه العصر، وحالة الجدال الوهابي العنيف مع التراث، ومن ناحية أخرى تخطب وداً طائفياً ومالياً مع النموذج شبه الديموقراطي الذي يستطيع أن يتكيف نسبياً مع التخلف الخليجي والإنسياق تحت سقوف خطابه وضرورات إثبات ذواته الملكية، مقابل دعم بنيته الاقتصادية الفقاعية الهشة.